إلى ذلكم اليتيم الذي تفجع وهو يشيع جثة والده..شيء ما يخبرني بأن صورتك ستظل محفورة في ذاكرتي لبقية هذا العام، لا..لبقية هذا العمر. === شيء ما جعلني أذهب للصلاة على والدك ولمّا أعرفه، خر أخوك الكبير مغشيا عليه قبل صلاة الجنازة وحمله البعض بعيدا كي يعيدوه لوعيه، وصلى القوم عليه فكان يسمع أزيز الصدور من هنا وهناك، فحمل الناس جثمان والدك ولقصر قامتك يا صغيري ضنت عليك الأيام بألا يطر شاربك، ويغلظ عودك، وتطول قامتك أولا فتكون فيمن حملت جثمانه رحمه الله.. تتفجع، وتتوجع، عيناك تهمل دمعا تكفكفه بغترتك، حتى ابتلت أطرافها، تتمتم بكلمة “يبه” وفي صوتك وجدت الدنيا لحن الحزن الذي أرادت أن تعزفه، وفي دموعك عثرت على الماء الذي تسكبه. تهافت الجميع فمدوا أياديهم وبقيت كطير مكسور الجناح تمشي حولهم تارة أمامهم وتارة خلفهم..ولو بعثه الله حينها لدفع أيديهم، ولضمك إليه مرة أخرى. حتى دموعك أردت لها أن تعانقه لكنها الأرض كما تسلب والدك اليوم فهي تسلب دموعك. وقف أحد إخوانك وقد خارت قواه، يلاحق ذلك الجسد الذي لف برداء أبيض يبكي في مكانه، عاجز عن الحراك ويتراعد جسده الصغير، يتعلق بحائط، يتشبث به وكأنه يتشبث بالوقت يرجوه ألا يمضي لمراحل الدفن، يريد من الزمن أن يعود لبعض الوقت، لبضع ساعات للوراء فقط. يشيع تلك المسافة الباقية بينه وبين عربة الإسعاف بعينه ودمعه. ثم أنك لامست جبين والد، حين سجي في عربة الإسعاف فما استطعت تمالك نفسك ودفنت وجهك في جسد أحد أقاربك تجهش بالبكاء، تتململ وعلها البراءة وما بقي منها يا صغيري هي التي تركتك تبث أوجاعك دون تكلف. احفظ هذه عني، لأنك كما صدقت حزنك فمن حق أحدهم أن يكون صادقا معك: “لا خال ولا عم يسد مكانه” ستفقده حين تريد أن تتعلم الجديد، وحين تنسى درسا قديما في الحياة، ستفقده . وحين تختلط عليك الأمور فتبحث عمن ينصحك دون أن تفكر إن كان يصدقك أم لا؟ ستفقده.. وحين يقال “يُستدعى ولي أمر الطالب” ستفقده، ستفقده وتتوجع لفقده في كل رمضان وفي كل عيد، وحين تذهب معزيا أو مهنئا ستفقده. وحين تذهب لتخطب شريكة العمر ستفقده. وحين تسمي ولدك باسمه وكنت ترجو من الله أن يحمله بيده فترى جيلين تعانقا وكنت أنت السبب الذي اختاره الله ليجمع بينهما ستفقده.. وستراه في حزن والدتك، وفي ترحم أعمامك وأخوالك. ستراه حين تلمع عينا صحبه إذ يرونه في محياك وستلملم أخباره كلما وجدتها في صدر من عرفه، ستبحث عن صوره، ستقتفي أخباره وتحفظها.. ثم هي لا تسد ذلك الجوع ولا تطفئ ذلك الظمأ إليه.. لم تعرفه، ولن تعرفه تمام المعرفة كما يعرف الأبناء طباع آبائهم حين يبدأ الناس بتعجبهم لمدى شبه الفرع بالجذع.. لكنك بالرغم من هذا ستفقده، وتحس بهذا الفقد أبدا.. ستكون قصارى آمالك رؤيته في منام، ستحفظ تلك الرؤيا في حين يحفظ أقرانك ذكرياتهم مع آبائهم. “لا خال ولا عم.. والنعم فيهم كلهم” لكن لن يسد أحد مكانه. يا صغيري.. وحين نتقابل مرة أخرى لن تكون صغيرا بعد اليوم، فليس بالصغير من دفن أحد والديه، ذلك لأن البعض يكبر قبل أوانه ويشيب ولما يعاين الشباب.. وكذا قدرك.. فارض به.
Raed
2015/05/09 - 11:52 م
التعليق
سارة الحربي
2015/07/14 - 11:04 ص
ذكرتني دائماً أقول لبناتي لا أحد يسد مكان الأم , مهما كانت زوجة الأب أو العمة أو الخالة طيبة وحنونة …
المقال أوجعني وذكرني بمواقف ..
شكرا لحرفك الرائع