fear
واجه مخاوفك

“تغلب على مخاوفك..” هكذا دائماً يرددون دونما إدراك أو وعي لما يقولون. يهوّنون من هذه المخاوف، ويقللون من شأنها. تستطيع “قهر مخاوفك” أو واجهها واتركها وراءك فإن بحثت عن صورة تجسد هذه العبارة عبر محركات البحث لوجدت أغلبها لشخص يقفز من علو شاهق، أو أحدهم يمشي بمحاذاة حافة لو وقع منها لدق عنقه. في حين أن المخاوف التي أكتب عنها قد لا تكون مخاوفاً من حولك بينما هي داخلك. هم لايخبرونك بكيفية التغلب على مخاوفك، أو كم يستغرق الأمر؟ هم يريدون منك مواجهتها فحسب. وإن سلمت بما يقولون حرفيا فإنهم يشيرون عليك بأن تتغلب على مخاوفك بالحجة، والمنطق، والعقل. لكن يفوتهم أن العقل خصمك، المكان الذي تلجأ له لإيجاد الحل، هو منبع هذه المخاوف ذاتها، بمعنى أن عقلك يقف بجانب الخوف ضدك وعليه فأي فكر قد تتذرع به قد ينقلب عليك، وعل هذا يفسر عدم قدرتنا على التفكير بشكل سليم حال الذعر.

يحضرني مثال الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد جون ناش، والذي كان موضوع فلم beautiful mind حيث فقد عقله، وحين سأله الناس كيف لعبقري مثله أن يقع في مثل تلكم الأوهام؟ أجاب بأن عقله الحائز على جائزة نوبل هو من كان يصور الأوهام وعليه فأنى له مواجهتها؟

المخاوف التي أقصدها ليست من قبيل فوات موعد الطائرة، أو ألا تحصل على درجة النجاح في مادة جامعية، أو ألا تلتحق بوظيفة. أنا أتكلم عن المصاب بمرض عضال يترقب نتيجة فحصه الطبية فإما حياة أو موت، عمن يصل إلى موقع حصلت بِه كارثة إنسانية وتبحث عيناه عمن يرجو سلامته فإما لقاء أو وداع، عن المتهم يسمع القاضي يتلو حكمه عليه فإما حرية أو سجن.

أتحدث عن مخاوف تزلزل النفس، وتوقف الحياة أمامك، ووساوس تهمس في نفسك حتى يغيب صوتك من بينها. ويبقى ما تنتظره، ويتلاشى الأمل مع كل دقيقة تمضي، وينقسم مسار الزمن فالوقت من حولك يمضي كما هو لكنه يتوقف بداخلك ويمر ثقيلا كسائل غليظ يقاوم الانسكاب. تفترسك هذه المخاوف تنهش ما تبقى لك من رباط الجأش. تشل تفكيرك، وتستولي عليك، يضيق صدرك حتى أن التنفس يصبح إراديا، فتذكر نفسك بالشهيق ومع الزفير تحاول أن تخرج بعضاً من هذه الوساس. يصبح الطعام مجرد أشياء تمضغها، والنوم هروب من واقع إلى حالة من اللاوعي تسلم بها نفسك تماما لعقلك الباطن، الذي هو أول مايسقط من ضحايا تلك المخاوف.

ولتعلم حجم هذه المخاوف وضراوتها، انظر في عيني المريض متى ما اعلمه الطبيب بسلامته، وتفحص ردة فعل من يلمح الناجي من المصاب من موقع الحادثة، ومن يسمع حكم براءته سترى تقلص وجوههم، وتكسر معالمها، سترى دموعهم تجري دونما تمهيد، هي ليست دموع فرح، بقدر ما هي اعتراف بالضعف البشري، سمها إن أردت دموع النجاة. لأنهم في تلك اللحظة وبمقدار ما يتجسد طريق النجاة أمامهم يعقلون حقيقة مخاوفهم ويتجسد لديهم حجم الفقد الذي كانوا سيعانونه، لازلت أذكر الصوت الذي صدر عن أم وهي تعانق صغيرها فرحا بسلامته، كانت الصوت أشبه بصرخة ألم تنم عن جرح غائر، قد لا يفارقها الدهر أبداً. يقال أن الكاتب الكبير دويستويفسكي لم يبرأ تماما من تلك اللحظات التي وقف فيها أمام فرقة الإعدام والتي همت بإطلاق النار عليه قبل أن يدركه عفو القيصر بلحظات.

وحده الإيمان قادر على أن ينتشلك من هذا كله، أعني أن القلب هو آخر ملجأ تلوذ به وتوصد الأبواب دونه ودون هذه المخاوف. أن تعلق الأمل بالله، أن يأتي أحدهم فلا ينصحك، أو يهدأ من روعك، ولا يشير عليك بمواجهة مخاوفك بل يكتفي بقول “والله لا يخزيك الله أبدا” أو “لن يضيعك الله” هذه الثقة التي لا تستند على العقل بل تبني كل أساسها على العاطفة نحو غاية أسمى، ومشيئة أعلى هي آخر ما ترتكز عليه، وهي أوثق ما تعتمد عليه.

بقلم،

مجرّب

FacebookTwitterGoogle+WhatsApp
  1. roz

    2015/09/22 - 11:19 م

    أحببت ما قرأه قلبي قبل عقلي .. كلمات تلامس الجرح الغائر تطفي في مبسم الحزين نار الألم و تنير للعقل مسارات غطتها مخلفات المارة ? بوركت جهودك .. وأتمنى أن اقرأ المزيد

  2. دلال

    2015/09/23 - 02:56 ص

    رائع، رائع جدًا

  3. سارة

    2015/09/24 - 10:48 ص

    وحده الايمان …يالله تذكرت مواقف مرت علي وكانت عصيبة ومتتالية قبل ثلاث سنوات لم يقويني كلام وحجج وبراهين من حولي ،بل الايمان بأن الله لايخزيني أبدآ ،الحمدلله
    المقالة رائع جدآ

  4. fie

    2015/09/24 - 12:27 م

    جميل بل اكثر من ابو.جميل بل هو رائع يعرض بأغلى البضائع

  5. كلمتكم » رسالة من الخبير..

    2015/09/25 - 05:11 م

    […] هذه الرسالة كتعقيب على تدوينتي الأخيرة “واجه مخاوفك”  ، ولا  أظن أن أي تقديم لها سيرقى لما تفيض به من مشاعر […]

  6. نعمان سونا

    2015/09/30 - 02:04 م

    “وحده الإيمان قادر على أن ينتشلك من هذا كله”

    ياااااه

  7. الاء

    2015/10/20 - 03:35 ص

    المخاوف تعيق لكن الا يمكن ان توازن بين العاطفة والعقل ؟
    حين تسلم للعاطفة ذلك العقل لن يهدأ سيظل متسائلاً هل هذا هو الحل السديد ؟
    لو حصل حين اتتك المخاوف ان جعلت عاطفتك في مواجهة لها وبالرغم منه لم تتناقص بل زادت مخاوفك كيف لعقلك ان يقتنع بأن ذلك هو الحل رغم ان النتيجة كانت سيئة في مقابلة مخاوفه ؟

    التسليم دون قناعة يجعل الامر فيه تردد وعدم تأكد من النتائج

    التدوينه رائعة بإنتظار رأيك فيما اضفت من تعليق

    وشكرا

  8. اسماء الدخيل

    2015/10/20 - 06:32 ص

    فعلا كلامك لم يلامس الواقع فحسب بل هو الواقع بعينه
    واضف قول موسى عندما كان البحر امامه وفرعون خلفه
    حيث قال (كلا ان معي ربي سيهدين )

  9. والله لن يخزيك الله ابدا

    2015/10/20 - 02:49 م

    واجه مخاوفك ، ولا جديد الجميع في سباق بالنصيحة ان نواجه هذا الخوف ، لكن صدقني هي مرة واحده واجهته ونجحت كان لدي اشتباه في مرض عضال ، رغم انني اخاف من الرعد
    واخاف من المطر ، كنت مثل الجبل الشامخ في وجه ريح عاتية ، لم يتسلل لي الخوف ابدا ، هكذا بزون مبالغة ، كنت ارى اهلي بالمعنى الحرفي يهربون من ان يروني ، وكنت ارى اختي تبكي احيانا وهي تكلمني وتتحجج بالم في عينها :) .. لكن كنت على يقين لا اعلم كيف هبط كل هذا اليقين اخر كشف كان هناك فقط التهاب موضعي !
    علي بن ابي طالب رضوان الله عليه اختصرها ” اذا هبت شي فقع فيه ”
    خسارة ان يمر يوم في خوف هذا اليوم لن يعود عِش وواصطدم مع اي امر يحيل بينك وبينك ، ستشعر انك خفيف وحر :)

أضف تعليقك

*

أهم التدوينات