مطعم بيروت..مطعم يعلمه القاصي والداني في قطر، هو أشبه بالمطاعم المنتشرة في ربوع الوطن العربي والمتخصصة في طبق واحد فقط كمطاعم الكبدة، وأكشاك الفلافل، ومحلات الشاورما التي تبيعك صنفاً واحداً أو صنفين على الأكثر وترتبط بذاكرة روادها أوثق مما ترتبط بمحافظهم وبطونهم إذ يمثل الطبق أكثر من مجرد وجبة يسد المرء بها جوعه. أذكر ذات يوم أني صحبت أحدهم إلى مطعم بيروت بعد صلاة الفجر، حيث السكينة لم تغادر الشوارع هرباً من الزحام، حتى إذا جلسنا سأل صاحبي النادل: شعندكم؟ صُعق النادل، وفغرت فاي وأنا أرد عليه ملوحا بزيتونة في يدي عوضاً عن قضمها: مطعم بيروت! مطعم بيروت! يا حمص يا فول..*[1] “حقك علينا معلم” قلت معتذرا من النادل وبيّنت له أن صاحبي ارستقراطي انستجرامي يتفطر في الفنادق ذات الخمس نجوم فقط، ويصور طعامه للانستجرام أكثر مما يأكله. لكن صاحبي المكتنز ضاق ذرعاً بشح الأطباق، فأشار إلي أن اتمهل ريثما يتواصل مع المعلم، وعدل من نظارته وسأل: “حمص فول.. بس؟” ولفظه لكلمة بس كان كأنه شاعر مراهق في أمسية يقف على شطر بيت قبل أن يتعداه لآخر، أو كمذيع لبرنامج نفسي صباحي في قناة إذاعية. نظرت ذات اليمين والشمال، وأنا اطلب الستر من عنده سبحانه، أي رجل يسأل مطعم بيروت عما يقدمه؟ إلا إذا كان سائحاً، أو ساذجاً، أو كلاهما مجتمعين في شخص واحد. انتفض المعلم، وقد أحس بوقع الإهانة فقال في كل زهو وفخر: كيف بس؟ كيف بس؟ لا أخي! فيك تقلل زيت أو تكتر حامض. وصاحبي هذا والحق يقال يعد معجزة في الرياضات، وشهادة للتاريخ أيضاً فهو أخرق في كل شيء آخر. سأل وهو يحدج النادل بنظرة الشك: يعني أنت لا تملك إلا متغيرين رئيسيين هما الحمص والفول، ومتغيرين فرعيين آخرين هما الزيت والحامض.. صحيح؟ اشفقت على المعلم الخمسيني الذي وجه كلامه لي: شو عم يقول صاحبك أخي؟ نظر إليه صاحبي مبتسما والتقط قلماً من جيبه وراح يرسم هيكلة للاحتمالات يوجد على رأس الهرم كلمة حمص، وتتشعب من هذه الكلمة (عادي، قلل زيت كثر حامض، قلل زيت قلل حامض، كثر زيت كثر حامض، كثر زيت قلل حامض) ثم هم الأخ يشرح في الساعة الخامسة فجراً باب الاحتمالات الرياضية فقال للمعلم: بحسب ما ذكرت من متغيرات فأنت تقدم 5 أصناف من الطبق الواحد دعني أشرح لك.. انفجر المعلم: أخي حمص، أو فول، أو حمص فول مكس؟ صار صوته يتهدج ويرتعش في عصبية فبدا وكأنه يغني لا يسأل. ضحكت بعصبية قائلاً: معلم.. واحد حمص واحد فول الله يخليك، قلل زيت كثر حامض. وإذ بصاحبي يقول وكأن فتحاً هبط عليه من السماء بعد الفراغ من خربشته على المحرم الورقي: خمسة عشر صنفاً هو كل ما يملك! وأخذت آكل الزيتون بعصبية بالغة، ورجع المعلم بصحني الحمص والفول وهو يقول: حمص، وابتسم نحوي حتى رأيت حشوة بنواجذه، وكاد يرمي الطبق في وجه صاحبي وهو يتلفظ بكلمة فول التي هربت من شعيرات شاربه المفتول ومن بين أسنانه التي كز عليها. نظر إلي قائلا: فلفل أخي؟ تهلل وجه صاحبي وأشرق ولم ينقصنا سوى صوت قيثارة ليكتمل المشهد الملائكي وهو يحسب همساً قائلا: “ثلاثين! الاحتمالات زادت ثلاثين يا معلم” وابتسم وكأنه ينتظر أن يرسم له المعلم نجمة على صحن الفول من الزيت زيتون لأنه طالب نجيب. امسك المعلم بقطعة قماش كانت مسدله على كتفه المنحني بفعل تقدم العمر، مسح بها وجهه طويلا وببطء شديد حتى قلت ستتغير معالم وجهه، كل هذا وأنا اسمع صوت استغفار من خلف القماش. نظر طويلاً، وبما أننا نتحدث عن الاحتمالات فعل الاحتمالين في عقله البسيط بمتغيراتهما كانا: الاحتمال الأول: يصفعه بصحن الحمص أو الفول؟ أو الاثنين معاً وإن كان فما هو أول ما يصفعه به؟ الاحتمال الثاني: يستغفر الله ويمضي وشأنه، ويتصدق دفعاً للبلاء. مضت برهة ثم إني أحسبه اختار الاحتمال الثاني. أخذت آكل الزيتون بغضب وأرمي صاحبي بالنوى قائلاً: بسم الله، الله أكبر! احتمالات ها؟ بسم الله، الله أكبر! متغيرات. ها؟ بسم الله، الله أكبر.. يا شيخ ارجع إلى بوفيه الفنادق وإفطار الطبقة الارستقراطية إفطار “كونت نينتك” تبا لك ولرياضياتك. وهو يقول: أنت تجهل جمال الرياضيات والإنسان عدو ما يجهل. “كل وأنت ساكت، كول واشكور” (ومددت الضمة في كل من كلمتي كُل واشكُر مد متصل ست حركات) أما عن السبب الذي دعاني لاستحضار هذا الموقف، فهو ما أراه جملةً وتفصيلاً في كل ما يواجه المنطقة من قضايا مصيرية وملفات أمنية، وتحديات اقتصادية، ومشاكل اجتماعية، سواء تعددت بدءًا من داعش، ومعدلات بطالة الشباب، إلى أسعار النفط وغلاء العقار وقيادة المرأة كلها ملفات تحوم حلولها في فُلك (كثر حامض قلل زيت) يا سادة، يا مسؤولين، الحياة بمتغيراتها المتسارعة أعقد من طقم محدد من الحلول التي يتم تجربتها على الجيل تلو الجيل إما بخفضها أو رفعها، أو سنها وحذفها، أو التغليظ في عقوبة مخاليفها تارة ثم التساهل في أمرها. هذه الحلول هي ذاتها بنكهات أخرى، أي تحت مسميات مختلفة ويتم طرحها عبر وجوه أخرى لكن الحمص حُمُّص وإن كثر زيته أو قل حامضه ولن يغير حقيقته ألف “تنكة” زيت زيتون! لا ولن يفرق الطعم إطلاقاً إن قلنا أن الحمص مستديم التنمية، والفول متنوع المصادر. ولن يغير من هذا الحل طريقة تقديمه، تماما كما لن يغير حقيقة الحمص ما قُدم فيه جفنةً كانت أو قصعة أو صحناً. ولن يغير هذا الحل أيضاً من يقدمه سواء كان خبيرا أجنبيا أو مواطنا عربيا كالفول الذي لن يتغير سواء كان من يقدمه من أهل “أهلين” أو قوم good morning أو عرب bonjour! بل أن المثال لا يستقيم فصار قياسا مع الفارق، والفارق تطبيقكم لهذه الحلول لأن مثال الحمص والفول أعلاه يفيد اختيار صنف دون أصناف أخرى وأنتم أطعمتمونا كل صنف فإن لم نأكله نحن فقد أكله آباؤنا من قبل! فصارت الاحتمالات وقائع، والمتغيرات متجمدات-إن صح تسميتها بذلك- لأنها لا تواكب العصر ولا ترق لحجم هذه التحديات. إي طامة هذه أن يكون الحل جزءا من المشكلة؟ فننصرف عن المشكلة لمعالجة الحل الذي وجد من أجلها؟ نعم حلقة مفرغة، ودوامة لا نهاية لها، ومأساة يضيع العمر في سردها. يا جماعة تعبنا من الحمص والفول عقداً بعد عقد.. وفي غياب قدرتنا على دخول المطبخ وتحضير طعام يسد جوعنا، ويلقى استحسان ذائقتنا في آن واحد، يبقى أمرنا مرهوناً بمجرد الطلب وعليه ممكن نغير الحمص والفول لو سمحتم؟ مشاوي مشكل شعب مثلا؟ ولا كوول واشكوور؟ (مع مد الضمة في كل من كلمتي كُل واشكُر مد متصل ست حركات) ======= [1] طبعاً لم يسلم المطعم من العولمة فتم إضافة أصناف عدة لها متغيراتها وهي أكثر من أن تحصى اليوم كالفلافل والمسبحة..