حياة في صِوَر


سؤال واحد يعيد نفسه، وفي كل مرة تكون صلصلته أشد من السكون قبله: أين ذهبت الأيام؟

 

الصورة الأولى:

ناولتني والدتي صورة لطفل يحدق عبر النافذة، تقول إن هذا الطفل كان يطيل النظر في السماء. كان يستدعي القليل من الانتباه، وفي المرة الوحيدة التي اصطدم بها في جدال مع والدته في طفولته فوبخته، وأدبته على مزاعمه هو حين أخبرها أن حذاءه ضيق، فظنت أنه يريد التهرب من المدرسة، وعلمت في آخر اليوم أن المتجر العالمي آنذاك قد باعها فردتين لقدمه اليسرى-أجلكم الله-وأنه كان على حق وقد لبس الحذاء على مضض.

كان جريئاً قياساً بأقرانه، لكنه سريع البكاء عندما يوبخه أحدهم ويعلم أنه مخطئ. أقبل على الكتب، وعلى لعب الشطرنج، وكان أخوه الأكبر منه صاحبه، فإن لم يكن برفقة الكتاب كان برفقة أخيه ولم يمنعه هذا كله بالتفوق أثناء الدراسة بالرغم من بكائه الشديد في أول يوم له في المدرسة. تضيف، كان يطيل النظر والتمعن في الأشياء بجانب السماء، تذكر على سبيل المثال “حوطة” لأحد الأعيان بالحي وبها ما اعتاد الناس تربيته من الماشية والدواجن فكان يراقبها، ولم يفهم ذات يوم حب أطفال الحي قذف القطط بالحجارة مثلاً وكأن بينها وبين والأطفال عداوة دائمة.

زار جده لأبيه مرةً واحدة، لم يطل المكوث عنده، أسبوعين على وجه الدقة. عل أبرز سمة أن هذا الشيخ كان يسمع الطفل بكل ود ولم يقاطعه حين كان يسمع الطفل محدثاً إياه بما قرأ أو ما يحفظ من أبيات شعر بالرغم من أن الشيخ عرف بالقراءة والشعر. كان يحدثه كما كان يحدث رجلاً، يسأله دون انتقاص لعقله، بل ويخيره فيما يريد فعله أو ما يود أكله، فينتفض البيت لأن الجد أراد إنفاد رغبات حفيده. ثم مضت الأعوام وقيل له أنه توفى. لم تؤثر فيه الوفاة حينها، لكنها أثرت فيه بعد أن استرجع الكثير من الأحاديث التي لم تلتقطها الصور.

تقول والدته بأنه ضاع أثناء عطلة في تركيا، وهي تضحك اليوم بالرغم من الرعب الذي انتابها حينها، حيث وجدته جالساً بجانب “معلم” الشاورما يأكل ويبكي في آن واحد! علها لم تكن المرة التي ضاع فيها أو أضاع نفسه، ولم تكن المرة الأخيرة التي بكى بها.

عل المشاهد تبدو مقتضبة ومقطّعة وليس هذا ذنباً في جانب السرد مني، لكن هذا ما تبقى مما حدّث الطفل الصبي فرواه عنه للفتى، فسرده للشاب وحدث الرجل به.

الصورة الثانية:

صورة أخرى تسقط في يدي لفتى هذه المرة، يحيه والده، يسمع منه كلمات الثناء والمدح” كفو” “هذا عشمنا فيك” عند تخرجه من الثانوية وقد توقع الجميع سقوطه وأن “يعيد” السنة لتعرض أخيه لحادث مروع أمام عينيه، نجا أخاه برحمة من الله، عل هذه الأسرة كانت تحتاج سبباً للفرح حينها. كان الفتى ذو نزعة دينية آنذاك، صحيح أنه لم يكن “مطوعاً” بالصورة النمطية التي تتشكل عند سماعك هذا اللفظ “مطوع” لكنه أقبل على كتب الدين، والكتيبات، والتسجيلات والمحاضرات والدروس. البعض فسر هذا التدين على أنه هروب، ولعمري لإن كان ذلك هروباً فما رأيت الفتى أشد طمأنينة إلا حين كان يهرب إلى الله. في هذه المرحلة تعلق بجدته فكان يطيل المكوث عندها، وينام أحياناً في بيت جده. كثير هم من فسروا الموضوع، كثير هم من أولوا، وعللوا لكن تبقى الحقيقة أنه لم يخطط لهذا، ولم يدفعه سبب محدد.

لبس الزي الأزرق ضمن مجموعة صغيرة ممن ابتعثوا من مؤسسة نفطية إلى الولايات المتحدة الأمريكية، البعض لم يتمكن من المواصلة ومن تبقى ذهب مغترباً في السابعة عشر من العمر. رباه.. كم تفرقت بهم سبل الحياة. اليوم، بعض هذه الصداقات التي تشكلت، لازالت تمتد لأبعد من حياته، وبعض هذه الصداقات اختفت كما اختفى هذا الفتى ومن قبله الطفل. جاء في التقرير ما مفاده أن الفتى غير قادر على مواصلة الدراسة في الولايات المتحدة الأمريكية. لم تكن أول مرة يجزم فيها آخرون بفشله، ولم تكن هي آخر مرة يثبت للجميع قدرته على النجاح. وعل هذا كان نوع من الأنماط التي اعتادها، وهي أن يسعى دائماً ليثبت لغيره بأنه على صواب، ويمضي لأبعد من ذلك ليثبت لنفسه أنه على خطأ.

 

الصورة الثالثة:

هناك صورة له في الولايات المتحدة الأمريكية، يبدو من خلالها ضاحكاً لكن لا اعتقد أنه يبدو مسروراً. أمريكا كما تبين له لاحقاً تغير المرء إلى الأحسن أو إلى الأسوأ لا يهم.. أمريكا تغير فحسب. وفيها من خلال معاشرته للمئات من العرب والأمريكان، وخليط من الناس من شتى أصقاعها تغير، لم يكن تغييرا مطلقاً في إيجابيته أو سلبيته لكنه كان تغييرا دائماً. حتى كان يقول له صحبه الأمريكيون: بربك، كيف ستستطيع التأقلم مرةً أخرى في بلدك؟

لو افردت مجلداً بأسره للحديث عن شباب خليجي قبيل انتشار الانترنت في أمريكا، لكان أكثر متعة من كتب بعض المغتربين اليوم. تخيل أن يذهل هؤلاء أمام التقدم العلمي لرسالة نصية تحتوي الواجب كملف وورد، عندما نسي أن يأخذ واجبه إلى الكلية! إيميل، جعله يمضي الليل في دهشة مع صاحبه وهما يفكران: أين يتجه هذا العالم؟ كان الناس في أمريكا قبيل الانترنت يتبادلون النظرات، والأحاديث التي يتخللها ود أو بغض، البعض يريد أن يصبح مسلماً والبعض يريد منك أن تصبح نصرانياً على بعد أمتار فقط ممن أراد منك أن تحدثه عن الإسلام! واليوم تحدث جرائم قتل في جمع من الناس ولا شاهد عيان لأن الجميع مشغول بالنظر في هاتفه، مسحور بعالمه الافتراضي بعيداً عمن حوله.

تخيل ضحك هؤلاء على أحدهم حين قال: يا الربع والله العظيم في شي اسمه غوغل شكله أحسن من ياهو.. تخيل أن ترى شبابا يرون العراق يقصف، وبعدها أحداث سبتمبر، وأمة كاملة تبغضهم لا شيء سوى لأنهم ينتمون لنفس الدين الذي قام به أفراد من أمة تفوق المليار نسمة. هذه الحوادث وغيرها شكلتهم في قوالب قد تختلف عن القوالب التي ألفها المجتمع، لذا فإن كثيراً منهم اضطر للتخلي عن بعض قناعاته، والبعض اضطر للعزلة. أما عن صاحبنا فإنه وبعد التخرج آثر أن يربط نفسه بسلسة من التغرب سواءً للعمل في عرض البحر أو في دول مجاورة. عل الشاب ألف الغربة، لكن هذه المرحلة يغلب عليها الضياع وكثير من كتب الأدب. قد يستغرب البعض المرور على أمر كهذا وأعني بالأمر “الضياع” بكل هذه الأريحية لكن قل لي بربك هل لك أن تعثر على نفسك دون أن تفقدها؟

ثم اكتملت الصورة (بها)، ومن بعدها أزداد عدد من بالصورة فكانت ابنته، ومن بعدها ابنه حفظهما الله. فذابت سعادته في وجودهم، وصارت سعادتهم سعادته، وصاروا هم معنى الحياة الذي يبحث عنه.

 

كم من الصور وددت لو حدثتكم بها لولا ضيق الوقت ومخافة السأم، كم من الصور ظلت ثابتة مكانها، وكم من الصور سقطت، منها ما نُزِع بيد أصحابها أو بيد صاحبنا، ومنها ما سقط بفعل الزمن. حين أتفكر في أمر هذا الجيل الذي ينتمي إليه صاحبنا فأنا أعجب له، إذ أنه أتى على الناس زمان كانت فيه السعادة فائضةً في الطرقات تلقاها في محيّا كل شخص، بدون تصنع أو تعقيد يصاحب أي أمة يصيبها الثراء، زمن أدرك نهايته. عاصر مجتمعاً متراحماً، بسيطاً بعيداً عن التكلف، “على قلب واحد” كما يقال ثم لازالت السعادة في شح ونقصان يسد مكانها المال، نبحث عنها هنا وهناك فلا نجدها، حتى صار الأخ ينزعها من أخيه، غير مكترث أن يبني سعادته على حزن غيره.  وقد نال صاحبنا حظه من السعادة لا بعلم يمكنه ولا بعمل يجزى عليه، بل بفضل من الله. واليوم تضمه جدته، تمازحه قائلة: لحيتك بيضة فيبتسم قائلا: “زماني وزمان غيري يمه؟” الحق بأن الحياة ليست قصيرة، لكنها سريعة إلى الحد الذي يختلط عليك طولها، فتود أنك لزمت عهداً دون أن تشيعه لآخر.

وحدهم الذي لاعبوا الطفل ببراءته، وتحدثوا للفتى بحماسته، وجالسوا الشاب مستمعين لأحلامه هم الذين فاضت أعينهم حين تقدمهم نفسه هذا الماثل أمامهم، هذا الرجل ليؤمهم ذات يوم، عندما ولد ابنه مشعل فما استطاع تجاوز “ولسوف يعطيك ربك فترضى”

 

كتبت أثناء نظري للسماء.

رائد ذو الخمس والثلاثين عام 

 

FacebookTwitterGoogle+WhatsApp
  1. فاطمه

    2014/03/03 - 12:03 م

    “قل لي بربك هل لك أن تعثر على نفسك دون أن تفقدها؟”
    من اروع المقالات

  2. Munther Al dawood

    2014/03/03 - 06:12 م

    آخى وصديقى رائد، لقد قرأت مقالتك واصفا سيرتك الذاتيه وقد أعجبت فيها وبتفاصيلها وبدفىها العائلى. انا اعلم بأنك متميز بالخطابه والآن أضيف الى معلوماتى بأنك كذلك متميز بالكتابة. وفقك الله ورعاك. قصتك بها كثير من الشبه لقصة حياتى وما تخللها من لحظات تحدى وكفاح ونجاح وفرح وحزن. منذر

  3. آيات

    2014/03/03 - 10:09 م

    مُدهشة ..
    ولسوف يُعطيك ربك فترضى …

  4. Ahmed Ashour

    2014/03/03 - 10:43 م

    رائعة صورك .. أطالب بجزء ثاني من الصور

  5. علياء

    2014/12/02 - 12:22 م

    مدهش!
    طريقة سرد التفاصيل وانتقاء الكلمات..
    قراءة هذه المقالة كانت ممتعة بطريقة غريبة ونادرة الحصول. أنت كاتب.. مدهش!

  6. Raed

    2015/01/05 - 04:23 م

    شكرا لكن لست أهلا لكل هذا المدح :) لا زال علي الكثير من الممارسة حتى أتمكن من الكتابة

  7. كلمتكم » اللي له، واللي مب له

    2015/07/30 - 12:48 م

    […] فيك. خذ على سبيل المثال اصرارك أن تسرق ضحكات من حولك، ونظرك للنافذة نحو السماء، وكرهك للنوم رغبتك في ألا يمر الوقت دون أن تحس به، […]

أضف تعليقك

*

أهم التدوينات