شهر و حياة.

سأل و قد أمعن النظر، و راح يستعين بيديه لشرح ما يصبو إليه، “كل التقارير التي كتبها زملائي عنك تدور حول نطاق واحد و هو أنك مختلف عمن قابلنا. فما مصدر هذا في نفسك؟ ما هو الوقود الذي يجعل منك ما أنت عليه الآن؟”

أجبت بدون تفكير : شهر مرّ بي أثناء دراستي الجامعية في الولايات المتحدة.

هل سبق لأحدكم أن يحس بذاك الشعور أن بدنه ليس ملكه؟ تماماً كما تكون ردود الأفعال العكسية. عجبت عندها لعدم تلعثمي، و عدم حاجتي لوقت أفكر فيه بالرغم من أن سنين قضت على ذاكم الشهر، و كأني لأول مرة أعلم شيئاً كنت أجهله عن نفسي.

هّلا حدثتني عن هذا الشهر إن لم يكن هناك مانع؟

ما قلت:

إطلاقاً، أيها السيد. لم أكن أحتمل فكرة وجودي في الولايات المتحدة بالرغم من مضي ثلاث سنوات حينها على دراستي، و لم انتظم أبداً في دراستي الجامعية، و لا التحصيل العلمي. كنت مشوشا، تجذبني ألف فكرة، وكنت أحسب التخرج سرابٌ لا يدرك. فاتحني المسؤول بالشركة المبتعثة بأن هناك تقريراً يقضي بفصلي من البعثة و أنه التمس العفو لدى مسئوليه بأن أعطى فرصة أخيرة.

و الفضل من بعد الله لوالدتي، التي أصرت على أن أكمل و ألا أعود إلا بالشهادة “لأرفع رأسها” كما قالت. أقبل عيد الأضحى، و صادف بداية الشهر الميلادي و لكني لم استلم راتبي بعد.

هل أقلت من البعثة؟ رحت اسأل نفسي في يأس. لكني أتيت بالنتائج المطلوبة بل و حزت على شهادات تقدير من عميد كلية الهندسة فأي شيء يريد هؤلاء؟

قال لي أحد الزملاء المبتعثين من قبل نفس الشركة مهوناً:” أن الأمر عادي، و قد لقي مثل هذا حيث تأخر راتبه لمدة ثلاث أيام.” لكن المدة طالت. أصبحت عاجزاً عن سداد قسط الكهرباء، و الهاتف- الذي لم تم حياته بعد عدة أيام من تأخر الدفع – و أجار السكن زد على ذلك اختبارات نهاية الفصل الدراسي. منعني من الاتصال بوالديّ و الاستعانة بهما الخوف من أن أكون قد خذلتهما و قد علقا الآمال الضخام و رسما الأحلام لمستقبل ابنهما المغترب. فبأي وجه أقابلهما؟

كان كل ما أملك من نقود هو ما عثرت عليه في أركان المنزل هنا وهناك من قروش أو عملات ورقية أشك في أن تقبل و قد طمست معالمها.

 

 

و قد أسفر السفر عن أخلاق من معي، لا حرما الأجر حين دفعا أجار السكن، و فتح لي أحدهما باب بيته و أخذ الآخر يتكفل بطعامي فكم كان عزيزاً علي أن أرغم على الذهاب لأية مطعم فيلزمني صاحبي بانتقاء ما اعتدت أكله بالرغم من طلبي أرخص الأطباق، خشية أن أثقل عليه.

 

و انقضى الأمر على خير فبعد أسبوع من الملاحقات البنكية اتضح أن موظف البنك القابع في موطني ارتكب “غلطة بسيطة” فأسقط رقماً و خلط آخر لأنه كان مستعجلاً على العطلة – الله يهديه – هكذا علل مدير البنك حين حادثته، فلم أشأ أن أحادث الموظف لهوان شأنه. لكن سألت مديره أن يخبره بأن خلف هذه الأرقام المكتوبة على الطلب تقبع حياة لها أحلامها و مخاوفها. و حين كان هذا الموظف متنعماً مع أهله قضيت العيد منقطعاً عن كل أحد. حين كان ينتقي ما أراد مما لذ و طاب كنت أقف متسمراً أنظر لسعر كل مادة غذائية.   

ثم أن الأمر برمته تطلب شهراً من دفع الديون، حتى تنتظم حياتي مرةً أخرى لأتخرج من بعدها من الولايات المتحدة كما أرادت والدتي دوماً.

 

أنا على علم من أن غيري قاسى من الفقر أضعاف ما أتخيل، لإن كان الفقر رجلاً فقد احتضنني لوهلة و لبرهة ذلت لها نفسي أبدا. أقسمت بعدها أن أعمل جاهداً ما استطعت كي لا يمر بي يوم واحد من ذلك الشهر. أخذت على نفسي عهداً أن أنافس الأجنبي في عمله كأجنبي مثله يخشى أن يحرم لقمة العيش و ألا أركن ذات يوم بأني في معزل و مأمن من الجوع والفقر.

لذا تجدني انكب على الكتب التقنية في كل مجال يتعلق بالعمل، و أعمل أبداً من تطوير قدراتي و أبكر في الحضور و أتأخر في الانصراف.

ابتسم فقال : لولا أني سألتك بنفسي، لقلت أن أحدهم لقنك الإجابة و أعلمك بالسؤال لتستعد له.

ما لم أقل:

أني حاولت أن أحدث والدي و والدتي في لحظات ضعف كثيرة بما مررت به، لكني كنت أجبن من أن أنسب الضعف لنفسي. أني رجعت للشقة فوجدت البرد و الجوع و اليأس يقطنون بها بل و يزاحمونني فيها.و أن كل لقمة ازدردتها من جيب صاحبي كانت كجمرة أحشو بها بطني. أني وقفت أنظر للقهوة و السكاكر و الحلويات على أنها كماليات لا حاجة لي بها، اشتهيت أكلها لأني حرمت منها. أني قاومت في هذا كله رغبة حارقة للبكاء و الأسف على ما فرطت حتى آل الأمر لفصلي من البعثة – هكذا خيّل لي – فكان جذب الأرض للدموع أشد.

وأن الأمر و إن مضى عليه دهر، كان كفيلاً بأن يغيّرني للأفضل لكنه كان كالكيّ و لعمري و إن كان الكي علاجاً لصاحبه فهل برء جلد امرؤ من آثار كيه ذات يوم؟    

       

FacebookTwitterGoogle+WhatsApp
  1. إنسان

    2010/02/07 - 02:34 م

    جميل ما كتبت أستاذي رائد ..
    هذه الحياة وهذه طباعها ..
    تعطيني كل يوم درس جديد ..
    لكن ما اقسى درسك .. وما اروع تصرفك .. !

    حفظك ربي :)

  2. أبرار

    2010/02/07 - 04:54 م

    لايصل الناس إلى حديقة النجاح دون ان يمرو بمحطات التعب واليأس.. وصاحب الإراده القويه لايطيل الحدوث في هذه المحطات…..
    *مبارك عليك الطله الجديده لمدونتك

  3. Haya

    2010/02/07 - 09:22 م

    “A picture is worth a thousand words”, but rarely do you find few words that paint a beauteous lesson. Lucky you got that!

  4. القطوية

    2010/02/07 - 10:50 م

    سأكتفي بابتسامة استحسان. :)

  5. Raed

    2010/02/07 - 11:13 م

    و هذه تتبع تلك :)

  6. Raed

    2010/02/07 - 11:13 م

    when you are somewhere on the top, I will quote you.. so you better not regret this Haya..

  7. Raed

    2010/02/07 - 11:14 م

    علينا و عليك يا أبرار لكن لا زلت أريد من القراء أن يشيروا علي بما يرونه حسناً.

  8. Raed

    2010/02/07 - 11:15 م

    جزاك الله خير يا إنسان و لا حرمنا زائراً جديدا.

    مودتي.

  9. diamond

    2010/03/10 - 10:06 ص

    برافو رائد
    وشكرا على شجاعتك لعرض هذه التجربة
    انا شخصيا…كان مهم جدا بالنسبة لي اقرأها لاني اعيش نفس الظروف حاليا مع اختلاف بسيط في العوامل الفاعلة ..
    ..

أضف تعليقك

*

أهم التدوينات