إنسان من زمن بعيد.

اعتادته زاوية  يجلس بها وحده مع اثنين من مقتنياته: مذياع يلتقط تشويشاً مع بعض الأخبار و عصا يتكأ على غيرها أكثر مم يتكأ عليها أثناء مشيه. أبسط ملامح عذابه هو حرصه على هندامه، و أناقته بين أبناءه و أحفاده في حين أنه لو لم يفعل لما حاد عن اللباقة إذ أنه لم يلق بالاً لهندامهم و هم صغار فلأي شيء يلقون بالاً لهندامه الآن و قد عاد كالصغير بينهم؟

كأن تعاريج وجهه آثار سياط جلده الزمن بها سنة بسنة وعقداً بعقد، يلبس نظارةً سميكة بها شرخ صغير، لا يهتم بإصلاحه لأنه توقف عن رؤية الأشياء واضحة مذ زمن بعيد و أصبح لبس النظارة مجرد زينة تليق بسنه. لكم رجاه أبناءه أن يغيرها! يدفعهم حب الظهور و البر في آن واحد.

يبدأه الناس من حوله بأسئلة تمتحن ذاكرته كسؤال بعضهم : “عرفتني ؟” فيرد بسأم : “لا” لأن محاولاته اليائسة حين يتفرس في وجوههم محاولاً تذكر أسمائهم و معرفة آبائهم تخفق دائماً. لكم تمنى أن يستهل أحدهم : ب”هل تهتم بمعرفتي؟” شهد الله جل جلاله أنه سيقول : “لا “  ما الذي ينفعه إضافة وجه إلى كمً هائل من الوجوه؟ على أنه يسعد و يتحمس حين يسأله أحدهم عن قديم رحلاته، لكن الحماس سرعان ما يخمد حين يرى أن من أمامه سأله من باب العطف لا الفضول. فيسكت و يدعي النسيان.

كثيرا ما تحمل الغربة و العباب يصفع سفينته و طاقمه، و الرياح تصفر من حوله و تنثر الملح في وجهه، هو قادر على تحمل غربة كهذه بل إنه يتوق إليها. أما غربة الزمن التي يعيشها فهذا ما لا طاقة له به، إذ لم يلتقط أي شيء أثناء حياته يعلمه كيف يتكيف مع هذا الزمن الغريب الذي وصل إليه قهراً و غصباً. أبقي ليشهد للبشرية بأنها تحضرت و تمدنت و انطلقت بعيداً عنه و بني جيله لتجعل من حوله يتكلمون في علب يحملونها1، و يمعنون النظر و تطقطق أصابعهم في علب أخرى؟2

 يمضغ ما لا يتذوقه في حين يظن من حوله أنه يشتهي صنفاً معيناً، سيخبرهم ذات يوم أو لا سيدعهم يعلمون حين يصلون إلى “هنا” بأنفسهم بأن توافه كهذه لا تهم. كم يود  احتساء القهوة مرة تلو الأخرى في أي مجلس لكنه يعتذر ب”بس” ما أن ينتهي من الفنجال الأول. يلفظها لأنها أهون من الذل الذي يحس به حين يسلب وقت من يقف على خدمته.

عل أصعب ما عليه، هو دخول أحدهم إلى الخلاء معه، يسدل عندها “غترته” على وجهه و يمشي على استحياء و يدعو الله بقلب صادق ألا يلحظه أحد حين يكون محط الأنظار نظراً لبطئه و شخصه.  لم يحس بالمهانة قبل و لو أخبره أحد أن هو “النوخذه”، من هابه الرجال حضراً و بدواً سيؤول أمره إلى أن يعجز أن يقوم ببعض أمره لتمنى الغرق في إحدى مغامراته بحثاً عن المجد  في عرض البحار. رحمة الله واسعة فسرعان ما يعود لنسيانه بعد الخروج ليسأل : هل يريد فنجالاً آخر من القهوة؟

تختلط أسقامه، و تتنوع ألآمه هو لا يدري ما يخبر الطبيب الذي يحاول جاهداً كطبيب الأطفال معرفة ما يئن مريضه منه. يوصف لمن معه دواء، كل ما في الأمر حبوب أخرى بلون و شكل آخر تضاف لمجموعة يحتفظ بهاز أبعد اللؤلؤ و جمعه يجمع مثل هذا؟ عل الحسنة الوحيدة لهذه المجموعة اللعينة هو استدلال الوقت من خلالها، فالحبوب الزرقاء تدل على الغروب و البرتقالية على اقتراب موعد العشاء و هكذا دواليك.  

كثيراً ما يختلط الأمر عليه بين المنام و اليقظة، هو لا يدري لم تدمع عينيه لأقل سبب و دون سبب أحيان أخرى هل لأنه تذكر أن كل الأحباب واراهم التراب؟ بعض الوجوه مسحت و أخرى طمست خلا وجهين: وجه أمه و هي عجوز و وجه زوجته و هي شابة.

مضى كل برق خلب و بقيت حقيقة واحدة :

لقد سلبه الزمان كل شيء ، حتى دموع قد يذرفها الناس حزناً لموته.  لأنه “خلاص كبر و ريح و ارتاح”

====

1 كناية عن الهواتف المحمولة.

2 من المواقف المؤثرة في حياتي عندما سأل جدي – رحمه الله- و هو يشير بعصاه نحو  الاب توب: ما هذا ؟ رحت أشرح له .. فسكت منبهراً لقدراته، و قال : كنت من أوائل من اقتنى مذياعاً فسألت ما كنت تسمعون حينها؟ فسكت منبهراً لأخباره .. قال (كنا نتابع، هتلر و ما احتل من أوربا)

 

FacebookTwitterGoogle+WhatsApp
  1. وجـــدان غـــاليتك

    2009/07/08 - 10:30 م

    كلمات ووصف في محله ..لحال المسنين في هذا الزمن..الله المستعان !!..أسأل الله أن يعيذنا وأياكم من أن نرد لأرذل العمر

  2. ابرار

    2009/07/09 - 09:49 م

    افكر كثيرا هل سيكون انطباع احفادي عني كانطباعي عن جدتي ؟؟؟…اتمنى ذالك وبصدق ..
    فجدتي كمااسميها (أمي نوره ) هي عامود الارتكاز اللذي اتكئ عليه كلما ضاق علي الزمان
    ..حفظ الله غواليكم …

  3. فاطمه

    2009/07/23 - 03:28 م

    وإن دمعت العين وأنا أرى مشاهد الانسانية .. آبائنا .. جداتنا .. أجدادنا .. في العادة لا أحب تفحص مواقع الألم خاصة ألم الكبار .. حرارة دموع العمر .. وذبول الروح .. فمنذ بداية عهدي وأنا أراهم أمامي .. أحاول تدفئة أكفهم بكفي .. بتقبيل تعاريج العمر في جبينهم .. المنظر في مقالتك مؤلم .. ولكن شديد الحقيقة ..
    من الصور التي مرت في خاطري في طور القراءة هنا .. صور سالم // عقاب // شيخة // عاشة .. أحمد // الشواب الذين كنت أقضي معهم نهاية الاسبوع .. في مركز رعايتهم .. وفي كل اسبوع كانوا يتقلصون .. حجماً .. ومن ثم روحاً .. ومن ثم كرسي فارغ .. وكثير من دموع ..

    رائد
    هنا .. تحركت كثير من دموع وهُيجت كثير من خواطر .. عسى الله يرزقنا عمراً طويلاً .. وصحة بلا ضعف .. وانتقال نحو سماء بكرامة .. ولكم أجمعين ..

  4. Driver

    2009/07/25 - 03:19 ص

    وصفك رائع،
    لا أعرف إن كنا نستطيع الامتناع عن العطف و الشفقة عليهم حقا،

أضف تعليقك

*

أهم التدوينات