حين توقد الذكريات.

“أتعلمون…؟ دعوني أعطيكم درساً عن الحياة.. فأنا و إن بدوت قاسياً لكم، فالحياة أقسى بمرات…”

توقفت عن الخربشة، و أخذت بالاستماع إليه. هذا الكهل الذي يضجرني إلى أن أنحت بالرصاص في بطن الورق لا أخربش غيظاً و كمداً فقد كان موعد المحاضرة الخامسة مساءً فلا تدري ما أنت فاعل بعدها! الأستاذ مجيد مدرس اللغة الإنجليزية، أمريكي الجنسية إيراني الأصل ذو لكنة فارسية يلوك الكلمة ما بين طبقتي القرار و الجواب قبل أن تغادر فمه.

“كما تعلمون فإن جل غفير منا هرب إبان الثورة الإيرانية، فآثر غربة الجسد على غربة الرأي، و ارتضى بعد الأهل عن بعد العقل. فكنت ممن فر بعقله و رأيه. ثم أن الأعوام مضت و تتابعت إلى أن قررت أن أزور موطني، حقيقة أنا لا أدري ما الذي يعنيه الوطن، لكني أعرف أني ما أن استظل بسمائه و تقلني أرضه حتى أشعر بغير ما أشعر به تحت أي سماء و فوق أي أرض. فهل اكتفيت بهذا ؟

أبداً.. أردت المزيد، فرحت أعبث بالذكريات التي استودعتها صدري.. ذهبت إلى حيث حيي فارتعت من كل هذه المباني، أين الدور الفارسية القديمة؟ أين البيوت بساحاتها و الباعة ببضاعاتها؟

فهل اكتفيت بالجماد؟

أبداً.. رحت أبحث عن أصدقائي و زملائي، فلم أجد سوى “محمود” أظرفهم و أكثرهم ضحكاً و قد غادرت الضحكة وجهه، حياني و كأنه ينتهرني بعينه لأنني قررت أن أشوه صورة هذا الفتى الضاحك أبداً في ذاكرتي.. و هل أعذر أباً يوشك أن يفقد وحيدته لإصابتها بسرطان الدم؟ و هل أذكر اليوم من محمود نكاته و قفشاته؟ و خبث لمزاته إلى أساتذتنا و هو يدعي عدم الفهم؟ كل ما أذكر اليوم هروبي و تعللي بالانشغال من سكوته و إطراقه في حزنه و إغراقه في يأسه.”

وضع الكتاب و اغرورقت عيناه ارتعشت يداه و هو يسلم الكتاب للطاولة أمامه و خلال سرده لاح لي و كأنه طاعن في السن، التعاريج في وجهه و الضعف في بدنه.

“دعوا الذكريات، لا توقظوها و لا تزعجوها.. فهناك وجوه و مبان خلقت لتبقى بين الصدور لا بين الحضور”

ثم التفت إلى حيث السبورة و مسح عينيه.

FacebookTwitterGoogle+WhatsApp
  1. layal

    2008/08/19 - 10:41 ص

    ((فآثر غربة الجسد على غربة الرأي، و ارتضى بعد الأهل عن بعد العقل))
    ابدعت فيها
    ذكرتني بروايه طائر الخراب

  2. غير معروف

    2008/08/20 - 12:42 ص

    يا ولد الحلال انت وين ومهند وين؟!! عن الخقه الزايده ويا هالراس

  3. Raed

    2008/08/20 - 06:43 ص

    Layal

    لمن هي؟ و تسلمين على المدح.

  4. Musouka

    2008/08/23 - 08:49 م

    لم كل هذا الحنين، أتراه لأهلٍ أم حفنة طين؟ قد تلصق بي تهمة امتلاك قلبٍ من الحجر، لكنني لم اكن يوماً احن إلى بلد المنشأ، ليس إلا مخزناً لذكريات مضت ومتحفاً تعرض فيه بقايا من مغامرات وطيش، ومعملاً تدون فيه تجارب ما كان ومضى، وكما كان هو كذلك، فغيره كمثله يصبح.

    “ليس بلدٌ أولى بك من بلد، خير البلاد ما حملك”

  5. layal

    2008/08/24 - 10:45 م

    حبيب عبدالرب سروري – كاتب يمني
    اذا قريتها عطنا رايك فيها :-)

  6. بومنيف

    2012/11/17 - 10:18 ص

    فنااان

أضف تعليقك

*

أهم التدوينات