قلوب صادقة.

ولجت المطبخ ليلاً يقودني عبث الأطفال، فرأيتهما يبكيان و قد أخذ ينكت الرماد بعود في يده، و قد بدا كل شيء حولهما حزيناً باكيا ، حتى أن دلال “الرسلان” بدت فاغرة فاهها دهشة من صنيع البشر بقلوب صغارهم، و الجدران سوداء قد اتشحت بالدخان عزاء لهذه القصة التي لم تشهد زفاف عمي محمد من عائشة.

حينها و لصغر سني لم أعلم فيم يبكيان؟ خاصة ً وأن عائشة تزوجت من صاحب دكان ال”خَلـَق*” الثري قبيل أيام، صحيح أنه كان يناهز الستين و هي لم تتجاوز العشرين لكن كان الزواج حينها مجرد سنة للحياة وحفاظاً للنسل لا أقل و لا أكثر. فلم لا يفرح صديق طفولتها لها؟

كان مشهداً غريباً أن تمد عائشة يدها نحو عمي و هي ترتجف فلا تستطيع أن تمسك حتى ثوبه مثله كمثل السراب للظمآن و قد كان له أزيز مثل أزيز المرجل، “ما كان حتى يطالعها ، يمه..” لكني اليوم أعلم أنها لم تستطع لأنها لم تعد له بل باتت لغيره فحرام عليها أن تحلم بمثل هذا و حاشاهما. ثم إنه خرج بعد أن لمحني ذاهلة، و أقبلت علي أنا الطفلة الصغيرة فأخذت تحضنني بقوة وهي تبكي سألت : ليش تصيحين؟

فما ردت، و في الصباح انطلق عمي محمد في رحلة غوص و لم يعد إلا بعد أشهر.

مات كل منهما في الثمانين من عمره، و قد انقطع نسل محمد إذ لم يرزق بمن يحمل اسمه من بعده، رحمه الله .” إلى هنا انتهت محدثتي العجوز و هي تسأل :وش لك ابهالسوالف؟

الغريب أنك ما أن تذكر عائشة إلا ذكر الناس شدة حزن محمد حين زفت ابنة عمه لهذا الغريب الذي أخذها كجزء من سداد دين طوّق عنق والدها.و ما أن يذكرها القوم، إلا ترحموا على محمد و كأن الناس لا زالوا يصرون أن يجمعوا بين هاذين القلبين و إن فرق الدهر بينهما.

تقول من سردت هذه القصة على مسامعي لقد رأيته في منامي قبل أعوام، و في يده قلادة لم أر مثلها قط. فسألته: عمي ما أجمل ما تحمل.. من سعيدة الحظ؟

تبسم و قال: هي لعائشة.

أضغاث أحلام؟ يمكن، أو أن الله أرحم بعباده فجمع بينهما في دار لا حزن فيها و لا كدر ..هذا جائز أكثر.

FacebookTwitterGoogle+WhatsApp
  1. layal

    2008/07/21 - 01:18 م

    الظاهر انك تحب تنبش كبار السن وتعرف سوالفهم
    حالي معاهم كذلك- حتي يملوا مني ويقولون-اش درانا احنا -من كثر الاسئله الله يسلمك :-)
    عندما اسمع مثل هذه القصص لشخص قريب مني او كان يمثل شيء لمن يحدثني بالقصه اعلم ان قصصهم كانت اشد قسوه مما نراه الان

  2. anonymous

    2008/07/22 - 10:42 م

    وفي الجنان ما لا يخطر على قلب بشر

أضف تعليقك

*

أهم التدوينات