في سبيل التغيير..

دخل بمهمته الصغيرة و أحلامه الكبيرة، أخذ ينظر إلى المكتب و فخامته و إلى صاحب المكتب و هيبته إنه هو بشحمه و دمه .. قمة الهرم ولا حجارة من بعده سوى السحاب إنه طويل العمر إنه سيادة الوزير.


بطلنا شاب ولج المكتب مع مديره بعد نجاحه في مهمة أوكلت إليه، بطلنا صاحب مثاليات و قيم لا وجود لها في دنيا الواقع و بين الوقائع. ظل واقفاً، و ظن أن الوزير سيهنأه ويعاجله بالبشاشة والهشاشة، نظر الوزير إلى مدير الشاب قائلاً : أنا أصرح للناس و أنـتوا تصدقون ؟ يا أخي تعبتوني وياكم.

بطلنا ملك خيارين لا ثالث لهما، فإما يصدح بالحق و يذكر الوزير بمهمته أو يطأطأ رأسه معتذراً عما بدر منه و يدعي أن الأمر برمته خطأ في تفسير البيانات و تعليلها ليداهن القوي، فاختار الإعتذار. قطع عهداً على نفسه أن يصل إلى القمة، مهما كلفه الأمر،لكنه علم أنه لا يستطيع أن ينازع من فوقه سوى أن يستبيح كل طريق و يعتنق كل مذهب فالغاية تبرر الوسيلة، و المصلحين و الثوار قد يسوغون لأنفسهم مالا يشرع العامة لأنفسهم فالإلتواء استقامة و الخبث شهامة، نعم كل هذا في سبيل الغاية الكبرى و الخير الأعظم و سينظر الناس عندها إلى هذا القديس الذي ظنوا الشر به فكانت عيناه تترقرق متى ما استباح شيئاً و كان يذكر نفسه مراراً : أن الناس ستعلم مقدار تضحيته و عظم قدره متى بان لهم نقاء غايته، ففي سبيل التغير كل شيء مباح.

استطاع أن يدخل في حلقة الفاسدين فأصبح يقضي سهراته معهم، و يرتشي كما يرتشون كي لا يشك أحد في نيته و اخذ بالترقي شيئاً فشيئاً حتى أصبح القسم “في الجيب” و الدائرة و قطاع الخدمات و أخذ النجاح ينظر إليه بعين الرضى و تزوج من كريمة أحد الأعيان الذين توصوا خيراً به فزاد شأنه علواً و إسمه سمواً . دخل مكتب الوزير ذات يوم و هو يحدث الصحافة :

الواجب علينا.. و عندنا. و كذا.
بطلنا أحس بالتقزز و القرف من هذا كله، ما هذا التصنع؟ أحتى باللهجة؟ كل كلمة يغلفها النفاق، كل كلمة تطلى بالكذب. انتبه مع تقديم الوزير شخصه:
آه أقدم إليكم خير شبابنا…فارس الوزارة و نجمها الصاعد.

هناك تعرفت الصحافة عليه.. أحبته بل هامت بحضوره و سرعة بديهته.أصبح من بعد هذه الصدفة المتحدث الرسمي بإسم الوزير فصار من السهل عليه أن يتقرب من الوزير، لكنه كالفراش لم يكتفي بوهج النار بل أراد أن يلقي نفسه في أحضان اللهب. حاك مؤامرة بمدير مكتب الوزير، فنجحت ايما نجاح ! كان حقاً على الإستخبارات العسكرية في كل بلد أن تدرس هذا المؤامرة ففيها الخبث واللؤم والرشوة فيها النفاق و شح الأخلاق.. لكنها الغاية و الإصلاح لا تتم بالطرق العادية هم قد وضعوا للعبة قوانين تضمن بقاءهم أبداً في مواقع القوة و بقاء الشعب في مواقع الضعف لذا وجب الغش. مدير مكتب الوزير، بل حاجبه و صلة وصل بينه و بين باقي موظفيه. غدا بطلنا ككاهن قبيلة أفريقية غارقة في جهلها فلا يستطيع أحد أن يفهم إله القبيلة سواه و لا يفهم هذا الإله المتحجر عبدته إلا عن طريق هذا المشعوذ .

تصفح الكتب الرسمية ليطلع الوزير عليها، شكوى من موظف تنشد التغيير؟ تباً لتحرق و يذهب صاحبها إلى الجحيم! أظن أن يجني ما ضحى صاحبنا من أجله سنوات طوال و قد تخلل البياض شعره!؟ ثم أنه .. ثم أنه إن رفع الشكوى فقد يفتضح أمر هذا الإتجاه الذي يرعاه صاحبنا.. أبداً لن ترى هذه الرسالة النور. لكنه سيحفظ عنوانها سيعتذر من صاحبها فالوقت المناسب، و سيخبره بتفاصيل نضاله، سيبكي حينها صاحب الرسالة، و يلثم يد صاحبنا.. الجندي المجهول الذي يخدم الأمه و يجعلها همه. ثم استودع إسم صاحبها محفظته.

مر زمن حسبه صاحبنا أبد الدهر، وهو يخدم الشيطان في حضرته فكان يعاني الأمريّن، الأمر قاب قوسين أو أدنى لكن ما أبعده! لأن أصعب أشواط السباق آخرها. ما عاد يطيق هذا الظلام الذي باع روحه الطاهره من أجله طوال الأعوام..لقد تعب.

مرض الوزير، فابتسمت السماء لصاحبنا مرة أخرى .أواه كم كان يشك في ضياع جهوده فلا يعرفه العالم ، ولا يعلم حقيقته. لكن ترامى إليه عن طريق السهرات أن صديق عمره و رفيق دربه هو المرشح للوزارة.. أواه كم اعتصر قلبه، ما هو فاعل ؟ لكنها السماء تمتحن مدى إخلاصه و تفانيه. وهل مجد دون تضحية؟ و هل نجاح دون حزم؟ إنها التضحية الكبرى .. إنها آخر ما يملك ليقدمه قرباناً للظلام. إنها أخلاق الرجال ينزعها فلا يميزه من الوحوش الكاسرة سوى الهيئة من بعدها . وضع القطع في أمكانها، نثر خيوطه نصب فخاخه كأبرع صياد. و سرعان ما وقعت فريسته. شبهة ألحقت بصديق عمره و خنجر خيانة يطعنه في ظهره، التهمة : تحريض الشعب، تهمة سياسية تزج به في السجن و ترمي به في عداد المغضوب عليهم. ثم أن الأمر آل إلى بطل قصتنا، هنأه كل من عرفه و أخذت الناس تتعوذ بداخلها من شرّه.

دخل المكتب بزهو. هذه المره سيجلس على الكرسي، ترامت الصحافة تحت أقدامه طلباً في تصريح حصري، فلبى نداء الشهرة.كانت إحدى الأسئلة متعلقة بالفساد الذي شاع و انتشر و استشر.

سكت برهة، و هو ينظر إلى البقعة التي وقف بها منذ زمن و هو موظف لا شأن له.تخلله شعور غريب كذاك النسيان الذي تحسه و أنت تلج إلى المكان فلا تدري لم دخلته؟ ثم استدرك : نعم ، رداً على سؤالكم: ” الواجب .. عندنا. و كذا. و هذا إسم موظف سنشهر به و نلاحقه لفساده” و قدم إسماً أبقاه في محفظته.

نظر إلى انعكاسه في عيون العدسات أحس بالكرسي من خلفه و ابتسم لأنه صار قمة الهرم ولا حجارة من بعده سوى السحاب…. إنه طويل العمر إنه سيادة الوزير.

تمت..

FacebookTwitterGoogle+WhatsApp

أهم التدوينات