إبني و بائع الحلوى.

كنت أجري كالمجنونة في كل مكان ، لم تهمني نظرات الناس من حولي. منهم من كان يشفق علي دون أن يحرك ساكناً، و منهم من ينظر إلي أني غير جديرة بأن أكون أماً، أحسست باللوم في نظراتهم و تهاوت إلى أذناي همساتهم.. كنت أدعو الله من قلبي… يا رب رده إلي.. لم أشك أن البريطانيين أصحاب قلوب متحجرة إذ اكتفوا جميعهم بالمشاهدة و الفرجة لا أكثر.

“يا رب فرصة ثانية, يا رب عاقبني كما تشاء لكن لا تحملني ما لا أطيق من البلاء.. يا رب إلا فقد ولدي.”

غاب عني سعود في لحظة و أنا أحدث البائعة، رجعت إلى حيث كان فلم أره. أخذ الخوف و القلق يتسربان إلى نفسي فعلا صوتي ، وتسارعت دقات قلبي و تتابعت خطوات رجلي، ثم ذعرت وأيقنت أن ولدي ضاع مني فأخذت أهيم على وجهي و عيناي تبحثان في فوضوية عنه.

ملابس، موظفات .. مشاة.. أنوار .. زوجي يكلمني لا أعقل مما يقول حرفاً.. أشياء ملقاة على الأرض.. أطفال.. ليس بينهم! و هناك لا ليس هناك.. و تراكمت الصور حتى اختلط كل شيء دفعةً واحدة. .

أقبل رجال الأمن الخاصين بالمحل علي بدافع الخوف من الملاحقات القضائية (إن كان يحق لي أن أقاضيهم و كأن أموال الدنيا تغنيني عن ولدي) لا بدافع الإنسانية و أخذوا بالسؤال و تتابعت اسئلتهم كالمطر المنهمر. فتركت زوجي للإجابة، لا أريد أن يضيع الوقت هباءً.

أخذت آخر لحظة جمعتني و إياه تبتعد شيئاً فشيئاً و مضى عليها الآن دقائق و أحسب أن روحي تنزع إن طال فراقي به أكثر من هذا. و أخذت أتمنى أن يعود الوقت دقائق.. مجرد دقائق, أنا لست نبية و لا ولية لست معصومة من الذنوب لكني أطمع أن يغير الكون سنته, و الأرض دورانها و الكواكب من أفلاكها مجرد دقائق.. و أخذت أمنيتي بالكبر مع الوقت حتى خشيت أن أتمنى أن يعود الزمان أعواماً و سنين.. هنا و قفت بين الحشد.. هنا هويت إلى الأرض و شاء الجسد أن يلحق بدموعه. عد يا سعود.. رباه كيف لي بالسعادة و قد تجسدت سعادتي إسماً و معناً فيه؟

هنا أحسست بيد تضغط على كتفي،

وضحى.. شوفي هناك.

و أشار زوجي بيده من بين الزحام و هؤلاء الجيف التي تمشي بدون أرواح, هؤلاء البريطانيين معدومي الرحمة الذين لم يأبهوا أو يعبأوا. لاح لي من بينهم، إنه هو.. بمعطفه الأسود الذي اقتنيته له, و سترته الرمادية. بشعره الأسود وعيناه الواسعتان بخديه المتشربان حمرةً من البكاء على كرسي بجانب البائع جلس بقلق و حزن يلعق السكاكر التي أعطاه إياها بائع الحلوى يتلفت يمنة ويسرة.. لا أدري كيف وصلت إليه، هل وثبت؟ أم أن الأرض بيني و بينه أشفقت علي من الهلاك إن طال فراقي به؟ يداي تفحصا جسده, و دموعي تنهمر على وجنتيه، و أذني لا تسمع إلا : ماما. و قلبي يخفق بشدة.

حمدلله.. حمدلله.. لا أجد أبلغ منها.

و مرت سنين، كبر بها سعود و لم أزل فخورة بمشهد لا يفارق بالي، هو رميه للسكاكر حين وقعت عيناه علي و بكاءه و هو يمد يده تجاهي . و كم كنت أسهب في شرح هذا الموقف، و تعليل بواعث نفس سعود و معرفة مقداري عنده إذ رمى أغلى ما يملك الطفل أرضاً و آثر حضني، فالطفل يضحي بالمال و راحة بال أمه و أباه ثمناً للحلوى.

و هنا اغرورقت عينا وضحى، هذه العجوز التي لا يثبت للمرء أنها كانت شابة في يوم ما سوى بريق بعينها : “و اليوم.. اليوم يرميني لجل كل شي.. مره لفلوس و مره لمرته و جهشت بالبكاء.”

و لم تكن الباكية الوحيدة حينها.

FacebookTwitterGoogle+WhatsApp
  1. ماشي صح

    2007/12/18 - 05:39 ص

    روووووووووووووووووووووووعة

  2. Arabian Princess

    2007/12/18 - 08:04 ص

    لطالما أثرت فيّ العلاقة بين الأم وولدها، أشعر أن هناك نهراً من الحب لا يتوقف في قلب الأم ، نهراً إن كتبنا المجلدات عنه لن نوفيه حقه!

    أبدعت أخي رائد ..

  3. بحرينية

    2007/12/18 - 12:11 م

    لذلك لا يستغرب الفرد منا ان تناهى على مسامعه ان كثيرا من الامهات يتمنين ان لا يكبر ابنائهم و ان يبقوا بعمر الطفولة !!
    بس مدام الحب كان موجود ايام الصدق ايام الطفولة لابد وله رجعة
    لنفس الحب للام و لكن هذه المرة سوف يرجع بكل ندم و اسى على تضييع تلكم السنوات لعيون جم فلس
    قصة موفقة
    لاني ما توقعت الخاتمة
    شكرا رائد

  4. Catism

    2007/12/18 - 12:27 م

    آه لقلب الأم! :'(

  5. أبو مروان

    2007/12/18 - 02:50 م

    وفيت وكفيت اخي بارك الله فيك

    حقا كما قالت البحيرينية كم من امهات لا يتمنوا أن يكبر أولادهم حتي لا يتغير حالهم

  6. فاطمة

    2007/12/19 - 12:09 م

    من جد تصوير الموقف و لا أروع و لا أبلغ منه ..

    عيدك مبارك يا رائد :)

  7. Raed

    2007/12/20 - 01:44 م

    ماشي

    أنتا اللي روعة.

    AP

    صدقتي. و لم أبدع و لا حاجة

    بحرينية.

    رأي اعتز به لعلمي بصراحتك :)

    Catism

    :)

    أبو مروان

    و فيك الله بارك

  8. ❤whαtever❤

    2007/12/25 - 03:33 ص

    يمكن هذي القصة تكون من وحي الخيال بس ننصدم ساعت بقصص وااايد من واقعنا عن تضحية الأم لولدها وكيف هو بالنهاية يبيعها عشان زوجته .. لكن كما تدين تدااااان.. بصراااحه القصة حلوه وتعور القلب واتمنى انك تعصر مخك وتكملها بسرعة لاني شخصيا متلهفة عشان اعرف متى بتموت زوجة الولد, ودير بالك يارئد مو تلف مرتك مخك ع الوالدة الله يحفظها (مستقبلاً)..

  9. المعضادي

    2007/12/26 - 10:50 ص

    بصراحة ، ، روعة يا رائد
    اجبرتني على الرد ياساااااااحر
    صارلي فترة اقرأ كتاباتك الرائعة والتي عادة تكون بين الغموض والوضوح
    على فكرة ماشدني في هذه القصة غرابتها يعني
    من يقرأ بدايتها لايتوقع نهايتها المأساوية

  10. أذكى سيرف

    2007/12/29 - 11:43 م

    هذا ولدك سعود ولا كيف؟؟

  11. Raed

    2007/12/31 - 11:37 م

    whatever.

    هي كذا قصة قصيرة. و أتمنى أعجبتك :) ؟

    المعضادي :

    أحب مدح قيل في حقي “ساحر ” لقوله صلى الله عليه و سلم : “إن من البيان لسحراً و إن من الشعر لحكمة”

    أذكى :

    بالله عليك؟

  12. تكوم

    2008/02/11 - 03:17 ص

    جازاك الله كل خير وافاد بك
    احيانا كتيرة ينسى الواحد منا قيمة النعم التي يحضى بها ولا يعرف قيمتها الا بفقدها او يتواريها عن ناظريه
    احيانا تنسيك المشاغل واحيانا المشاكل وووووووووووووووووو ان تقول لمن تحب انك تحبه لكن……………………………………………………………………….
    هلتنسى الام ان تحب ابنها هل تقدر الاتفكر فيه……………………………

    لا اعرف كيف استجمعت الكلمات باخصار اردت ان اقول لا تنسو ان تحبو والديكم

    اسال الله ان يطيل عمر والديا و لن يوفقنى و اياكم في برهما امين

  13. تكوم

    2008/02/11 - 03:19 ص

    جازاك الله كل خير وافاد بك
    احيانا كتيرة ينسى الواحد منا قيمة النعم التي يحضى بها ولا يعرف قيمتها الا بفقدها او يتواريها عن ناظريه
    احيانا تنسيك المشاغل واحيانا المشاكل وووووووووووووووووو ان تقول لمن تحب انك تحبه لكن……………………………………………………………………….
    هلتنسى الام ان تحب ابنها هل تقدر الاتفكر فيه……………………………

    لا اعرف كيف استجمعت الكلمات باخصار اردت ان اقول لا تنسو ان تحبو والديكم

    اسال الله ان يطيل عمر والديا و ان يوفقنى و اياكم في برهما امين

أضف تعليقك

*

أهم التدوينات