

نقبل على الدنيا فنعد منذ الصغر على خوض الحياة بانتقاء الحلال دون الحرام و اختيار الخير لا الشر و نوطد أنفسنا على الأمر حتى يبدو كأنه سهل بيّن فكأن أصحاب الشر أغبياء لأنهم لا يحسنون الإختيار و يخطئون تباعاً، فمثلاً يربي الآباء أبنائهم ألا ينتزعوا لعبة من يد صاحبها و هم ابناء خمس “لأنه: لأ، عيب و الشطار ما يسوون … ” و قد أجادت ابنت عجرم المعنى إذ نسبت فعل الخير للذكاء فقالت في إحدى معلقاتها :” ولي بيسمع (حجي) إمه شو بنقله؟” وكما لا يخفى عليكم أن طاعة الوالدين من الخير إذا لم تكن هي الخير نفسه!
لكن الأمر يزداد تعقيداً ما تباعدت المفاصل عن بعضها البعض، و ما ازدادت شموع الزينة عاماً بعد عام و ازدادت حاجتك معها لمزيد من الهواء تحشو به رئتيك لتطفئها، فعلى سبيل المثال عند نفس الآباء الذين سبق ذكرهم لا يصبح الأمر بهذا الوضوح إذ أراد الإبن أن ينتزع حسناءً ما من يد شابٍ آخر و يلقى اللوم على الأقدار و حكمتها والأرزاق و قسمتها!
نعم! حينها تفاجىء بأن جل ما تواجه في حياتك هو اضطرارك إلى الأهون ما بين شريّن أو الحيرة في استحسان الأخيّر من بين أمرين ويكون الأمر مكتنفاً بالغموض حتى أن بعض الأمور قد تزال عالقة بذهنك بعد أعوام و ما زلت منها في شك. أما ترى إبليس قد أرصد وساوساً و ذنوباً مفتاحها “لو كان كذا لفعلت كذا” ؟
على أني اتخذت مذهباً حين يختلط الأمر علي و يلتبس، هو ألا أبني سعادتي على حجار الآخرين و جراحهم، وألا أبالي ما عرضت لي السعادة و ما تزينت إن تكحلت هي بدموع الغير.
و ليعذلني من شاء له أن يظن أن الدنيا تؤخذ غلاباً و تكسب أسباباً و أن ما أبشر به و أدعو إليه مثالية مردها كثرة القراءة لا محل لها إلا كمحل الشاة بين الذئاب، وقد تراني أمضي الدهر ألملم حصي السعادة و حجارتها فرحاً فأبني بها جداراً قصيراً متواضعاً ، على عكس أولئك الذين يشيّدون جدراناً شاهقة الطول سميكة العرض تلوح لك من بعيد و إن كنت على سطح القمر كسور الصين فتحسب الشروخ لا تصيبها و الصروف لا تغير معالمها. و هم على على ذلك يعظمونها، و يكبرونها ، و هم على استعداد على سفك الدماء و قتل الأبرياء ليمدوا طولها و ليزيدوا من عرضها وليرفعوا من علوها تماماً كشأن اليهود مع حائط المبكى.
و لا…، لا لست أدري أتنهد هذه الجدران على رؤوس أصحابها فتفدغها بفعل الجرذان كسد مأرب؟ أم يمضون بها شرخ الشباب و يعمرون باقي المشيب منعمين في ظلالها؟
لا لست أدري.. و آسف إن كان هذا محبطاً لبعضكم. فليست هذه قصة تروى لطفل يتأسى بها قدوةً بالخير، و لا مسلسلاً رمضانياً ساذجاً يكيل الشر به للخير طوال الشهر الكريم، حتى إذا أقبلت ليلة العيد أنتصر الخير بمعجزة فشُل الشرير و افتضحت زوجته و مات ابنه جزاء بما كانوا يصنعون..
عجباً ! أكنتم تحسبون أني على يقين ٍ مما أصنع ؟ إذن فاعلموا أني أمضيت ليالي تهيج نفسي كبداً على ما سلبني إياه آخرون و لم يشاطرني حزني أحد، بل أقبلت علي النفس لائمة عاذلة :
أن أنظر إلى فلان، قد زين جداره بحجارتك و ثلم جدار سعادتك. فأي شي نفعك أنك ما سلبته قبل أن يسلبك؟ قد انصدع بنائك و انكسر، و طار خبر بناءه للبدو و الحضر! فما أسعده و ما أتعسك. و ما أغناه و ما أعدمك! تحلق الناس حول بناءه و تخلف القوم عنك فوا حسرتاه على الحجارة كم تعبنا في جمعها و صقلها و رصها بين إخوانها.
و حرت جواباً و زادت عتاباً، حتى مضت بي الليال و بها ثم إن حمامةً اتخذت الثلم عشاً لفراخها، و كان ِقصر الجدار جالباً للمحبين ليجلسوا فيتعاتبوا عليه, وللأصحاب ليتسامروا حوله ، و للمتعبين ليرموا بأحزانهم و يستظلوا به.
ثم أني تبسمت للعصافير و زقزقتها. و للمحبين ومناجاتهم و للأصحاب و أحاديثهم و للمتعبين بآهاتهم. هؤلاء الذين يعاونوني على بناء جداري كما عاون ذو القرنين أصحاب ما بين السدين.
و قلت لنفسي : امعني النظر إليهم … هذا ما لا يستطيع أصحاب الجدران الشاهقة سلبه.
و من يدري..؟ عل بالعمر فسحة فيطوي الدهر عن أسباب أخرى لهذا الجدار أن يبقى إن مضى من شيده من بعده؟
Amina
2007/10/30 - 03:13 م
اسلوب راق، كرقي ما تدعو إليه يا رائد.. و لا ليست هي بالمثالية وإلا ما بقيت فضيلة على وجه الحياة إلا و تم ركنها تحت عنوان “المثالية” و نبذها لأجل ما تغلبه “الواقعية”.. هو ليس بالخيار السهل ذاك المنهج الذي اتخذته، بل هو أصعب من مد تلك الجدران الشاهقة التي ذكرت، لكن الجميل أنك “تختاره”.. و صدقت، كم يصعب على المرء رؤية الخير في أيامنا هذه.. كثير مما كان يدعو لأشد الاستنكار أصبح “عادي” و “ليش لأ”..
لكن.. تصبح “الحسناء” مقابل اللعبة عند الكبر “ينتزعها” شاب من هذا أو ذاك؟؟ ما عندها مخ؟ يعني هذا المقطع نرفزني شوي! و قد أكون متطرفة في فهمي فلا عليك..
و على طاري ابنة عجرم، ذهلت لإعلان عن مسرحية “هادفة” تحييها نانسي في الدوحة! هذا هو المضحك المبكي ذاته!!
عدا عن “الحسناء”، استمعت بالمقال، كما استمعت بنداء الصحراء، صور معبرة ترسمها بكلماتك.. مزيد من التوفيق ان شاء الله..
بحرينية
2007/10/31 - 05:51 ص
صنفت الافعال الى ثلاثة .. افعال الشر و هي السوداء , افعال الخير و هي البيضاء , افعال البشر و هي رمادية تكون اقرب منها الى الاسود عندما يغلب الشر و العكس صحيح عندما تكون اقرب منها الى الخير .. و هنا تكمن المعضلة فشلووون اعرف هالرمادي هذا رمادي مسود او مبيض عندها فقط اتمنى ان تعود ايام الطفولة هناك حيث كانت تعيش اعتقادات بسيطة في مجملها عميقة في معانيها حيث يذهب الكذاب الى النار و اللي ياكل حلاوة اتطيح ضروسه
بوست هايل بجد .. على قولة اخواننا المصريين
شكرا رائد
Arabian Princess
2007/11/01 - 01:14 م
جدراننا كيف نبنيها .. قد لا نرى جمالها اليوم ولكنا إن بنيناها بما يرضي الله ويرضي نفسنا .. فإننا حتماً سنرى جمالها إما في هذه الدنيا الفانية أو في الجنة الخالدة إن شاء الله.
مقالة رائعة عميقة في معناها ..
Raed
2007/11/03 - 01:59 م
لست أدعو إلى مذهب يا أمينة إنما نهج رأيت أنه الأسلم و الأصعب، لكن الحسناء في أغلب الوقت رهن غيرها. و إن كان يتطلب الأمر مزيداً من التفصيل و التعليل و إن شاء الله انظم له مقالاً بنفسه، و أنا شديد الإمتننان بمرورك و قد ترامى إلي شديد زحام جدول أعمالك، وفقك الله.
====================
بحرينية… هايل مرة وحدة! كلمة كبيرة في حق البوست و صاحبه!
=================
إن شاء الله أيتها الأميرة…