كما بينت سابقاً (1) فإن لهواية القراءة جانباً آخر قد يعده البعض سلبيا ولست أهلاً للحكم، لأني أحببت القراءة حتى ولعت بها و قديماً قالت العرب : الحب عمى عن عيوب المحبوب. لكني أذكر أموراً منها:

غيابي عن الناس حين قراءتها و عزلتي عنهم بعد الفراغ منها ، فأنسٌ بصحبتها و وحشة ٌ بدونها.. بل تأفف لمن سألني لم أكثر منها؟ وما أن انتهي من أحدها لأرجعه واقفاً بين صحبه في أرفف عدة بنظام معين إلا وقد قايضني صفحات منه بساعات من عمري، وبَرَدَ بحروفه فكري ، فأبعث للحياة من بعده بصورة أخرى قد لا تتناسب والعصر الذي وجدت فيه فأرمى بالمثالية و الخيال، لأني كما قال أحدهم : تعلمت من الكتب لا من الحياة!

نعم أعيد الكتاب ليتدارس مع بني جلدت(2) و أعود لبني جنسي, عاد لمن انتمى و انتميت قسراً لمن عدت إليه. ومن الأمور التي لست أغفلها حيرتي حين أناقش أمراً من الأمور إن سألني محاوري :

فما تقول أنت بعد أن ذكرت أقوال المتقدمين و المتأخرين؟

فأحير جواباً لأني أرجع ما أرى لما قرأت أما هو فيرمي آراءه عبثاً دون أن يقيدها برهان أو يلجمها دليل. و أدهى ذاك كله هو أني شقيت بكم وسعدتم بي .. نعم أبناء أبي، فهمتكم بطبيعتكم لكثرة ما قرأت عنكم باختلاف ألوانكم وألسنتكم و جهلتم أبسط ما كنت أبغي منكم، بل طالبتم بالمزيد لأني قرأت و من قرأ فعليه بالتأكيد أن يتفهم النقص البشري في الناس و أن يتغلب على نفس النقص بداخله.

بقي أن أذكر آخر هم و أكبر غم .. هي بذرة القراءة و ضرتها :الكتابة!

===============

(1) راجع مقال (هذا ما جنيت من الكتب) للكاتب بزاته.

(2) كم كان يحلو لي في صباي أن أتخيل الكتب تتدارس فيما بينها ليلاً فيسمع المنطق إلى علوم القرآن والأدب للعلوم المجردة. ثم أحكمتني الأيام، فعلمت أن الكتب كالناس تحب بعضها البعض أحياناً و أحيان تبغض.

.