ليلى و مسألة أسبوع

لملم الأهل أغراضهم لرحلة أقسم السياسون أغلظ الأيمان أنها لن تدوم سوى أسبوع أو أقل. تركت الأم أوانيها, وترك الأبناء ألعابهم.. و تركوا في ليلة دهماء ظلماء ليلى ورائهم فقد زفت قبيل شهر إلى قفصها الذهبي. تجلدت الأم لفراق ابنتها ,التي كثيرا ما كانت أختاً صغرى لها,

 

 

بكت ليلى

 

 

وارتجفت “يمّا .. يمّا ”

 

 

“شش.. هوني عليك بنية يقول أبوك أن الأمر لن يطول أكثر من أسبوع.”

 

 

أكيد, أنا سمعت بالمذياع من يؤكد هذا, كل شيء سيكون على ما يرام. هكذا قال عمّار ليطمئن زوجته.

 

 

احتضنت أمها بقوة وتشبثت بها حتى إن همس بها زوجها أن كفى قالت ” بس شوي..” تستزيد من حنان أمها لسبعة أيام طوال تمر دهراً أبداً. نزعها زوجها من أحضان أمها “يكفي.. ” حنقت وغضبت وهي تنظر إليه لأنه حرمها من دقائق تمضيها مدللة في أحضان أمها لكنها وقفت بجانبه. ما هذا الحد؟ إن شيئاً يفصل بينهم الآن و هم في غرفة واحدة, كأن جداراً قد ضرب بيـن من شاء البقاء ومن آثر الذهاب والعودة بعد حين.

 

 

دخل الأب و نظر إلى زوجته معاتباً ” هيا فالأطفال ينتظرون” رافقت ليلى أبويها إلى الخارج, ودعت كل من أحمد ويوسف ..

 

 

أسبوع و تعودون لا تنسوا أن تجلبوا لي الهدايا, أفهمتم؟

 

 

هز كل من الأخوين رأسيهما و تبسما.

 

 

و زهرة آه لزهرة تلك الطفلة النائمة في دعة وسلام. قبلتها ونظرت لأمها وقد أغرورق الدمع وانسكب.

 

 

عمّار أمتأكد أنت؟

 

 

لا لن أترك الأرض ثم أنه مجرد أسبوع يا عم, ويعود كل شيء كما كان.

 

 

وانطلقت قافلة من” قضا الخليل” يمشون في صمت محزن. صمت من لم يرد أن تعلم الأرض أن أهلها يفارقونها مجبورين فهم يدبون على الأرض دبيب حذر يخشى أن يوقظ نائماً بها. أما أشجار الزيتون فبدت حزينة عاجزة عن البكاء فكأنما انتصبت إجلالاً لمن اعتنى بها مشيعة آسفة ً لفراقه. حتى القمر استحى أن ينظر فأشاح بوجهه, والريح تمر بين الأغصان فترسل حفيفاً حزينا موجعاً. وإذ ب”بيت جبرين” يلوح من بعيد بكت أم أحمد جزعا أرادت أن ترجع أدراجها, فليفعل اليهود ما شاء لهم أن يفعلوا لكن لتبقى مع صغيرتها مرةً أخرى. قبض أبو أحمد على معصمها.. وقال في حزم من لا يعرف التردد “هيا..”

 

 

نزحوا إلى ما وراء النهر, ومضت أيام حتى جاء اليوم الثامن فتهلل وجه أم أحمد, اليوم يلتئم الشمل , اليوم ينتهي هذا الكابوس, آه كم اشتاقت لفتاتها, لملمت أغراض العائلة وذهبت إلى حيث جلس الأب ” ألا زلت جالساً ؟هيا..هيا إلى خليلنا إلى أرضنا و زيتوننا هيا إلى ليلى فقد وعدناها” صمت أبو أحمد وقال منكسراً : “احسبنا جلوساً هنا لفترة..” تهاوى ما بقي من أغراض في يدها و تبعت هي الأغراض سقوطاً إلى الأرض.. بكت و أنت واشتكت.

 

 

نعم, فقد دامت هذه الفترة أربعين سنة تزوج فيها أحمد و يوسف و زهرة, وماتت الأم, كل هذا و ليلى تتخيل تلك المشاهد دون حضورها. مرض عمار فلم تقدر ليلى على السفر , كبر الأبناء ولم يربط العائلة المشتتة سوى مكالمات يعرف بها من ولد و من مات. و بعد أربعين سنة وقفت عجوز على بابٍ في إحدى المخيمات في مملكة الأردن, يصحبها كهلان هما أبناء الحاج أبو أحمد. وضعت يدها على فمها تخفي آه تزفرها, تمسح دموعاً تذرفها حين رأت زهرة , امرأة في الأربعين.. هذه الطفلة التي حملتها بيدها, تعانقتا أحست ليلى برجفة حين قالت زهرة : “ما أشبهك بها, لقد ماتت وهي تلهج بذكرك” ولم تستطع حفظ أسماء الفتيان أو الفتيات التي تلاها أحمد ليعرفهم بعضهم ببعض. رباه إنها لا تعرف شيئاً عنهم سوى أسمائهم لقد غدوا إلى الأبد غرباء. لكنها تبعت أحمد إلى حيث أشار :

 

 

ولجت إلى الغرفة , هناك كان يرقد أبو أحمد مسنداً ظهره وما أن رأها حتى امتدت يداه ترتعشان نحوها, شيخ محطم كالأثاث البالي الذي زين غرفته. هوت العجوز تقبل يد أبيها و تلثمها, و عينيه تهميان أخذت تقبل يده بسرعة فما عادت تركن إلى الدهر, من يضمن لها أن يرزأها الدهر مرةً أخرى فيحرمها عائلتها؟ هل يضمن أهل القرار ذاك كما ضمنوا أسبوعهم؟ . لم تبال بالقوم من حولها, نست أنها جدة لها وقارها. ينتظرها أحفادها, نست أن لها زوجاً كسيحاً لا يستطيع أن يقطع الأيام إلى قبره دونها نست كل ذاك و طرحته بعيداً عنها لتغدو ليلى مرةً أخرى فتاة القضا المدللة إنها لا تبكي دمية اليوم, بل وطناً مغصوباً وشعباً مشتتا. ” يابا ..قلت ..” انتحبت “أسبوع… أسبوع” جهشت “كلهم قالوا أسبوع..ليش ما رجعتوا؟ ” , طأطئ رأسه خجلاً ولم يزد عن قوله (سامحيني, سامحيني )

 


وليسامحني القراء, فلست أدري إن كان هذا الشيخ الطاعن في السن يعتذر لإبنته المغتربة في وطنها, أو زوجته المستوطنة قبرها أو ربما يعتذر إلى أرضه المغتصبة.

 

 

 

بهذا حدثني ابن من أبناء أحمد.

 

FacebookTwitterGoogle+WhatsApp

أضف تعليقك

*

أهم التدوينات