صور-علم-قطر-2
رسالة من زمن الحصار

إلى ذلك النور في حياة كهل بسيط

 

إلى مشعل ومنيرة مع التحية،

 

أتمنى أن يكون ما تقرآنه جزء من ماضي بعيد ضل طريقه لحاضر تعيشانه. أن نحول دون أن يمتد يومنا لغدكم. أكتب لكما عن حدث وقع في الخامس من يونيو من العام ٢٠١٧. وحين لن تعدما المراجع، ولا البرامج الوثائقية التي تعني بأدق التفاصيل فلا أريد الحديث هنا عن السياسة، ولا الاقتصاد أوالأسباب التي دعت لما نعيشه.

 

حدث في ذات ليلة من ليالي رمضان أن كنت جالسا وقد منعني المرض من الحراك أمام حقيبتي التي اعددتها للعمرة، وقد وقع في نفس والدكما أن العمرة لن تكتب له هذا العام. صليت الفجر رجعت للبيت، تفحصت تطبيق تويتر وتوالت الأخبار تباعا، قطع كل من الإمارات، والمملكة العربية السعودية، ومملكة البحرين وجمهورية مصر لعلاقاتها مع دولة قطر. حادثت أحد الأصدقاء القطريين عبر تطبيق آخر، كنّا ذاهلين، ما الذي يجري؟ أما كان القادة لتوهم في الرياض وقد تجمعوا ووقفوا جنباً لجنب؟ ما الذي دهاهم؟ وازدحمت التغريدات في تويتر من كل مكان، كل الشعوب الخليجية كانت تضحك لسذاجة الخبر، تندرت به!

 

“حكومات بينها البين، ولا علاقة للشعوب بذلك” هكذا علل العقلاء منهم. لكن الأمر اشتد وانضمت دول أخرى لا أدري ما تسببت لها قطر من أذى لتقطع علاقتها بها في رمضان؟ الناس استيقظت للتوجه لعملها، وفجعت بالأخبار. هناك حديث عن قطع المواد الغذائية إلى قطر. أخذني ما يأخذ كل أب، توجهت لبقالة قريبة في السابعة صباحا، أمشي في ممراتها. عادت لي ذكرى قاسية أثناء دراستي في الولايات المتحدة حين جرب والدكما الجوع لشهر أو ما يزيد عن ذلك. لا أريد لكما معرفة ذلك الشعور. هكذا هي الأبوة يا مشعل وهكذا هي الأمومة يا منيرة، ببساطة علينا تجنيب فلذات أكبادنا ما قاسيناه. عيناي تدوران في الممرات بحثا عن حليبك المفضل يا مشعل، وأطعمة تحبينها يا منيرة. اشتريت القليل، الهدف كان أن أوفر لكما هذه الأصناف في حال انقطعت المواد التموينية وريثما يعود استيرادها من الأسواق. أنظر ذاهلاً للأخبار بين تطبيق تويتر وقروبات الواتس آب، الجميع يستغرب يستنكر أو ينكر كل هذا تحت اللبس أو المبالغة: “يجوعونا في رمضان؟ حسبي الله ونعم الوكيل” “ما الذي يريدونه؟” جدكما اتصل بي: “رائد، سمعت الأخبار؟ لا تذهب للمطار..”

“إن شا الله يبه.. يبه قاصركم شي؟”

“لا تحاتي. إن شا الله كلها كم يوم وينحل الموضوع”

صمت بيني وبين والدي يحمل في طياته ما لا أستطيع أن أصفه بكلمات. الحق أن جدكما لم يكن الوحيد من أحسن الظن فخمن ألا يأتي عيد الفطر إلا وعدنا كما كنا قبل الخامس من يونيو لنفس العام.  

 

تنبيه على شاشة الجوال، مجموعة واتس آب تسأل عن أقاربنا في العمرة “ما الذي حل بهم؟ يقال أن هناك تعميم أن يغادر القطريون المملكة في غضون أربعة عشر يوماً”

 

بحثت في تويتر عن أخبار جديدة، رأيت أحد المغردين السعوديين ممن عرفوا بدفاعهم عن الحريات والحقوق يتندر بنقص الطعام عندنا في قطر. فيذكر اللبن، والتمر وجيوش من متابعيه يتبادلون الضحكات. “يقصرهم ماء حتى الماء ما يقدرون يجيبونه، يقصرهم تمر.. وهكذا دواليك”

 

توقفت عما كنت افعله، حادثته عبر رسالة خاصة ” فلان أنت تعرف مشعل ولدي ذو الأربعة أعوام، تتندر بجوعه يا فلان؟” كنت واقفا في وسط البقالة وأنا ذاهل. “يا فلان إخوانكم! يا فلان أنتم خوالهم، يا فلان مسلمين! يا فلان بشر.. يا رجل لم يبق غير الإنسانية أتمسك بها أمامك عل رشدك يعود إليك!”

 

قال: “أنا مكسور خاطري يا بو مشعل على اللي صار، لكن نذر علي إن أذبح لمشعل متى ما ربك زينها”

 

“لا ينكسر خاطرك. اللقمة تجي وتروح والدنيا مواقف” كتبت هذا. أغلقت التطبيق، شردت بأفكاري “كيف لهذه البشاعة أن تتجلى في لحظة وفجأة وعلى هذا النحو؟ أين الإنسانية؟” انتبهت.. مكالمة من والدتكما – كان صوتها قلقاً : “رائد شصاير؟”

 

“لا عليك، كل شيء سيكون على ما يرام”

 

“لا تسافر”

 

“لن افعل، لا عليك. سأحضر للبيت عما قليل.”

 

رجعت للبيت، وضعت ما اشتريت وهي تنظر إلي بقلق. “أحقاً ينبغي لنا شراء هذه الأغراض؟” سألت وهي تعاين ما احضرت.  

“يبدو أنهم سيغلقون منفذ سلوى. لا عليك، إن شاء الله لن نحتاج لاستعمال أي منها، وسنتصدق بها للمحتاجين.” حتى إذا حان وقت الإفطار تجمعنا في بيت جدتي، كان الصمت يسود بعد أن تبادل الجميع قلة الأخبار المتداولة.

 

سألتني جدتي حين قبلت رأسها ويدها: “شفيهم؟ استخفوا العالم؟ في رمضان ومسلمين؟” ثم قالت بنبرة كلها ثقة: “خلهم، الحافظ الله..” 

 

ما تلى ذلك من أيام كان عصيباً علي، كانت هناك نية بالتدخل العسكري، والهدف تغيير النظام بحسب القنوات الإخبارية العالمية، كان التحليل أعمق، وأكثر صراحة فيما كان التحليل العربي ينظر لهذه الأزمة على أنها حدث عادي. للكما أن تتخيلا كيف لي ألا أشارك الناس في حين أخشى أن اتسبب بالذعر للجميع. لا أذكر أني نمت إلا بضع غفوات أثناء الأيام الأولى. أفسد القوم علينا شهرنا، كانت أياما عصيبة اسأل الله ألا تعيشوها أنتم ولا أبنائكم، أن تجيش الأنظمة جموعا وأموالاً لتبث الكراهية تجاهنا. على أنها ليست المرة الأولى التي أجد نفسي أمام هذا الطوفان من الكراهية والحقد، إذ عاصرت أحداث الحادي عشر من سبتمبر في الولايات المتحدة، لكن حين حقد الشعب الأمريكي في عمومه فكرة عرقنا وديننا تفهمت أسباب كراهيته وحقده. لم أبرره، لكن تفهمت سببه. ما يؤلم حقاً في هذا الكره الذي نعايشه – كره بلغ بالأهل أن يتفرقوا، والأصحاب أن يصبحوا أعداء، وأن تهوي اللغة بيننا إلى السباب والشتم والقذف – هو أن أسبابه غير معلومة! مجرد اتهامات، وكل دليل على البراءة يغدو تهمة يشكك فيها القوم. كره لا يعلمه إلا قلة أمروا الناس به، وبشروا به الجموع على أنه الدين الجديد. باسم الوطنية، وحب الوطن كيلت التهم تباعا بنمط مكارثي فكانت قطر – بزعمهم- وراء كل مصيبة أو مع كل خصم، عموما لن أصدع رأسيكما بها، يكفيكما قراءة رواية ١٩٨٤ لجورج أورويل فهي تصف بتطابق مذهل ما أراه هناك. كثيراً ما تندروا بصغر حجم قطر يا صغيراي، وفاتهم أن الأوطان تقاس بحرية شعوبها، فأي نفع أن يكون وطنك الكبير سجناً؟ وأي قدح حين يكون وطنك الصغير دار تنعم بها حرية وعزاً؟

 

عن الوجع دعاني أحدثكما، أن يكون وجودك شبهة، ومصافحتك تهمة، والتقارب مع أي منا تعاطف تجرمه قوانينهم.  وجع هو أن تغيبك الظروف فلا صور تحتويك معهم في الأفراح، ولا ذاكرة تضمك في الأتراح. أن تتصل مهنئا، أو معزيا باقتضاب حتى إذا ضمتنا مدينة خليجية أو أخرى غربية أخذنا نلتف حول الموضوع أيما التفاف بالكلمة نراعي وقعها، وبتعابيرنا في غير موضعها وبزلات اللسان!

 

على أني لا زلت فخوراً بك يا مشعل حين سمعت اسم قطر يتناوله أحدهم فانتفضت في وسط المجلس قائلا تخاطب من تحدث في الأزمة قائلاً: “قطر صغيرة، لكن قوية”

شهد الله ما لقناك، لكنها الأوطان تمنح صغارها قبل كبارها أسباب الفخر بها.

 

وعن الفجْع، حين يُفجع المواطن البسيط بكل ما كان نصب عينه. عالم كامل تهاوى أمامنا، لم يدخر شيء لدهشة الشعوب كافة، القبيلة زجت في هذا الصراع العبثي، الدين أقحم، والفن كذلك مع الثقافة والأدب. لم يبق على شيء. فجأة وجد الشعب الخليجي نفسه يمر بمرحلة يتم، كل القامات انهدت، كل الرموز انحطت، كل النجوم سقطت وكل المثل كسرت. تنتظر كلمة الحق تخرج من أفواه الكثير فلا نسمع منهم شيئا. موقف هذا كل ما أردناه، أن يقال “إخواننا في رمضان روعناهم، وضيقنا عليهم” فلم نسمع. الصدمة هي أن كثير ممن تمرغ في هذا الوحل لم يتمرّغ فيه خوفا بل طمعا.

 

مشعل ومنيرة،

 

لم أكتب كل هذا لترسخ أحقاد في قلوبكما، الله يعلم كم نقاوم الانجراف مع هذا السيل من الكره اليومي، وأن نرقى كي لا نهوي مع هذا الانهيار من القيم إلى حضيض من الشتائم والقذف تمسكا بالإنسانية وتعلقا بها دون خضوع أو ذل. التعلق بالإنسانية لا يعني كونكما الأضعف بل الأقوى. فبالرغم من كل ما ذكرت لكما، فقد تعرفت على أفراد من ذات الدول أحسب صداقاتهم تمتد أبد الدهر. خاصة وأن العديد منها تشكلت أثناء الحصار. قد ينتقدون سياسة قطر، قد يرون في هذا على أنه مقاطعة لا حصار، قد يحتد النقاش أحيانا. لا ضير أن نختلف، أن يحمل كل منا رأيه ومعتقده دون أن نخوّن، أن نشتم، أو أن نتبادل الكره. ينبغي علينا التعايش.  

 

 

 كل ما بذلناه كشعب، وسنبذله كي تحملا وبني جيلكم عنا أغلى الأمانات علينا “قطر” حرة أبية غير خاضعة لأحد. تذكرا هذه السنة، حين لم تحتاجا لطعام ولا لشراب، تذكرا تلك الأطعمة البسيطة التي تصدق بها والدكما للمحتاجين في نهاية المطاف ولم تحتاجا لها.

 

وطن لم تشعرا فيه بالجوع أوالعطش حين ضيق عليه،

وطن أبقى على شعبه حراً حين ضاقت سجونهم بشعوبهم،

وطن آثر أن يبقى حراً برغم تكالب الأقارب عليه،

وطن راهن الجميع على سقوطه في بضعة أيام فبقي حراً حتى تاريخ كتابة هذه السطور.

وطن يستحق التضحية.

 

 

دمتما بخير ودامت قطر حرة تسمو بروح الأوفياء.

 

المحب لكما دوما،

 

والدكما.

 

 

ملاحظة: نسيت! المغرد الحقوقي الذي “انكسر خاطره” عليكما، حذف حسابه في تويتر في أقل من عام خوفاً من الملاحقة لآراء يحملها، ولانتقادات وجهها، وبقي حساب والدكما دون أن أحذف منه تغريدة واحدة تحمل عتباً أو لوما. بعكسه، فأنا لا أخاف من وطني، وحسبي بذلك الأمن لجانبه أن يكون وطناً بحق.  

FacebookTwitterGoogle+WhatsApp
  1. عبدالله السالم

    2019/03/20 - 02:42 ص

    جميل يا رائد، وقد كنت ظننت أني أضعت هذه المدونة المميزة بك.
    عن الموضوع لا تحزن كثيرا على مشعل ومنيرة فمثل هذه الأحداث ستبين لهما لاحقا أساليب السياسة وتحديدا السياسة العربية.
    وشعوبنا تحتاج إلى سنوات من الدرس المستمر لتدرك ما فاتها في فهم هذا المجال.
    تحياتي.

    https://wosom.net/

أضف تعليقك

*

أهم التدوينات