عزيزي الشرير الصغير،
لا تصدق مدى سعادتي وضحكي كلما ذكرت لي رغبتك في أن تكون شريراً، ليس أمراً معتاداً ألا يكترث طفل ببات مان، أو سوبر مان، بل أن يقف في صف القط توم عوضاً عن الفأر جيري والسبب مقنع فأنت تمتلك قططا حقيقية وتحبها فلأي شيء تبغض القط توم؟ هذا ما تسأله مراراً وأؤكد لك بأني أوافقك الرأي تماماً! وتميل للدارث فيدر بدلاً من السكاي والكرز. وجل حواري معك يدور في هذا الفلك:
حتى أني شاركت حوارك هذا على برامج الوسائط الاجتماعية فأسرت قلوب المتابعين، وأصبحت لك فقرة الشرير حيث رحت تحدثهم بمزايا الشر، وكيف أننا معاشر الطيبين أسأنا فهم الشر وحقيقته. أقول هذا لأن الشر عندك أعمق من طرح الرسوم الكرتونية، أنت تعلم أن الأشرار لهم عائلاتهم التي يحبونها، تماماً كالأخيار. بل أن الأشرار لا يرون أنفسهم أشراراً بالضرورة، الشرير العربي دائماً يحدثك عن الغاية الأسمى، الصورة الأكبر والهدف الأنبل.
لا تصدق مدى اعتزازي بهذا، أعني أمنيتك الغريبة هذه، أن تكون مميزاً من الصغر، ألا تكون من ضمن القوالب التي يوضع بقية الأطفال بها، أو الخطوط التي ترسم لهم حتى لا يحيدون عنها، أو البرمجيات التي تشغل عقولهم ليصبحوا نسخ متكررة.
والشر عندك منهج لا تحيد عنه ويشكل سؤالي لك: “شلونك؟” سؤال فلسفي وجودي، إذ تصمت وتفكر بعمق ثم تجيب: طيب..بس شرير!
وذات يوم جئت بجانبي، قبلت جبيني فقلت مهللاً: أهلا بالشرير يا مرحبا.
ابتسمت في وجه والدك، قلت وكأنك رجل آلي صغير: بابا لا أنا طيب الحين لأن الطيب الناس يحبونه، والطيب شاطر في المدرسة، و.. قاطعتك: أبخير أنت؟ ما الذي دهاك؟
ألست تريد أن تكون شريراً أليس كذلك يا مشعل؟
لا أنا طيب لأن الطيب الناس يحبونه، والطيب شاطر في المدرسة.
دعني أدون خواطري ومشاعري كما هي ولدي، شيء ما وخزني حينها.. وكأن الحياة غلبتك في أولى جولاتك معها حتى تغير قناعاتك بهذه السرعة. سرعان ما اكتشفت من قام بإعادة برمجتك على النحو الذي يرضيه ويرضي بقية المجتمع في المحافل العامة من سرد كلام إنشائي والقيام لا بما يثير الإعجاب حقيقة بقدر ما يمنع السخرية ويكفل لك أن تكون كالبقية بعيداً عن الهمز واللمز والغرابة مما تقوم به.
بل أن هذا الذي فعل ذلك فتحدث المجتمع على لسانه بأن “الشرير مب زين ويروح النار” جاء ليمن علي بنعمته العظيمة وقيامه بهذا الدور الارشادي العظيم والتحذير بأن معظم النار من مستصغر الشرر! وأن مشعل اليوم يحب أن يكون طيباً لأن الطيب الناس يحبونه، والطيب شاطر في المدرسة.
ألا قاتل الله الطيبة التي تمزج بالسذاجة، والمدرسة التي تصيّر الحياة عادة!
أظن هذا وأمثاله بأني اسمح لابني في الانزلاق بالمهالك لا سمح الله؟ التربية أعمق من طرح الرسوم الكرتونية والإنسان أوسع بمداركه من نظرة واحدة تشفع له وتستجدي رضا المجتمع عليه.
ما يهم هذا الصغير أن يرسم في هذه المرحلة من عمره خطوط حياته العامة، وما يهم أمثال الواعظ هو الرسم الكرتوني للحياة في تصويره للخير والشر في عيون مشعل. وبغض النظر قبلت بك يا مشعل بصورتك الجديدة، مشعل كما يود الكبار رؤيته! لأنك ولدي ولأنها حياتك تشق دروبها كيفما شئت بدعاء والديك واسدائهما النصح إليك متى ما احتجت لذلك. لكنك غدوت نسخة مكررة سهل توقع ردود أفعالها، والتنبؤ بجوابها إذ لم تعد تفاجئني أجوبتك، أو تضحكني وجهة نظرك لشدة ما تحمل من صواب يصعب علينا الكبار الاعتراف به.
شهد الله أني راهنت على الدماء التي تجري في عروقك، فأنت بضعة مني وإن عدمنا الكثير يبقى هناك ذاك الصوت الذي يرفض الانصياع لغير قناعاتنا. نعم بني، قد فات والدك الكثير لأنه لم يلبس ما أرادوا النظر إليه، أو يحدثهم كما شاؤوا الاستماع له، وكل ما مرت أمامي تلك الفرص كالحلم تذكرت أني أنام مرتاح البال في كل ليلة، خالياً من لحظات الشك التي قد تزعج تلك النسخ حين يسأل الواحد منهم نفسه: ماذا لو؟
ثم جئت بجانبي ذات يوم تحمل كتاباً ولا تجيد القراءة بعد، قلبته فنظرت إلي قائلا: “بابا، خلاص أنا شرير..” تهلل وجهي، ابتسمت وأنا استمع لك أن القط توم مغلوب على أمره، والدارث فيدر قوي، والجوكر ذكي! وقد يظن البعض أنك ما قلت هذا إلا ليسعد والدك، وأعيذك إن فعلت فما زدت حينها عن انتقلت من نسخة إلى أخرى.
بني.. شريري الصغير، كن نسيج نفسك، وصناعة ذاتك، واعط نفسك من العمر فسحة حتى تعرفها وتعرفك فتأنس معها حياة مديدة إن شاء الله إذ لا أوحش من أن تكون غريباً عن نفسك وتكون هي غريبة عنك فلا تأنس إن جلست خالياً، ولا تكاد تصدق بأنك ذات الشخص في وحدتك وفي العلن! ذاك الشقاء الذي يفرضه زماننا حيث بتنا نهرب من أنفسنا بكل شيء وأي شيء إلا أن نجلس فنتفكر أو نقلب الأحداث مع النفس بغية فهمها وفهم ذاتنا.
بني، أنت من يمشي دروبها عشها ولا تعش حياة غيرك فليس يرضيه إلا أن تتقفى أثره وإن قادك إلى مهلك، فلا أنت أمضيت العمر كما أردت، ولا نلت رضا المجتمع عليك. ولا تقنع بقيد يكبل حريتك إلا ذاك الذي يربطك بالسماء، فقد ضاعت أعمار الكثير يا مشعل حتى فطنوا بأنه طوق نجاة لا قيد كما أردوا لهم النظر إليه.
كل عام وأنت بخير، والعمر كله يا مشعلا يضيء بالأمل في حياة والدك.
المحب،