Palestine-map-proposal-b2
أعظم درس تاريخ

مر علي عشرات المدرسين، جلّهم كانوا عمالاً، كان التدريس بالنسبة لهم أكل عيش فقط. لكن قليل منهم كانوا ينظرون له على أنه رسالة، وأنبل ما يتكسّب المرء من خلاله. هؤلاء الذين إن صادفتهم إلى الآن عدت الطالب الذي يقول: “أستاذ..” قبل أن ابدأ في الحديث معه. أحدهم قال لي: “يا رائد كبرت بارك الله فيك وصرت أبو عيال وللحين تناديني بأستاذ فلان؟” قلت له: والله لا أقوى أن أناديك إلا بأستاذ. كم تأثر حين سمعها، لأنه ما انتسب لهذه المهنة الشريفة بحثاً عن المال أو المناصب.

 

وبالرغم من غزارة وسعة علم بعضهم، فإن من بقي منهم في ذاكرتي اليوم هو من علمني شيئاً عن الحياة لا عن المنهج المقرر.  نعم من علمني شيئاً عن الحياة، المنهج الأكبر والمقرر الدائم التغير. ومنهم من أود الحديث عنه اليوم، لأني شاهدت ما ذكرني بما قاله لنا ذات يوم. كنت أحسب أنها ذكرى قديمة مهترئة، لكنها تفسر الكثير من عزوفي عن الاقبال على معرفة تاريخ فلسطين بعد الاحتلال الصهيوني.

 

 التقيت به في الصف السادس الابتدائي، وليغفر الله لي فقد نسيت اسمه فكل ما اذكره اليوم أنه كان من جمهورية مصر العربية، كان عجوزاً نحيلاً اسمر البشرة، شاحب الوجه خاسف الخدين وشعره أبيض يسترسل على جبينه. أشبه ما يكون بشجرة جفت، ترفض الموت وترفضها الحياة. نظيف الثياب، دائماً يحمل كتاباً في يده حتى كنّا نتندر أنه التصق بيده مذ ولد. كثير الصمت، اذكر أنه كان متعبا، وكأن الحياة ارهقته. كان يشجعني على القراءة ويسألني عما اقرأ حينها، ولم يفجع حين قلت له: مغامرات طرزان! بكل فرح وكأني عثرت على محب لطرزان ومغامراته.

ابتسم: “طرزان؟ لم لا؟ فنحن نعيش في غابة!” ثم قال لي: “عندما تكبر، اقبل على قراءة التاريخ. فنحن بحاجة لمن يتذكر ويذكرنا”

 

له الكثير من هذه المواقف وبعضها طريف إذ لم تفته خفة دم المصريين وروح المرح خاصة حين كان يتبادل الدعابة مع أشقياء الفصل. عل أعظم درس لقننا إياه، هو حين تكلم عن الاحتلال الصهيوني، لا أذكر ما الذي حدث في ذلك اليوم، وما الذي دعاه لأن يقول لنا ما اسرده عليكم اليوم، عملاً بوصيته. بدء الحصة برتابة، كان يقرأ من الكتاب، من المنهج، من المقرر ثم صمت، واستدرك. مسح السبورة وكتب في وسطها: فلسطين.

 

“اسمها فلسطين يا ولاد. رددوا من خلفي، فلسطين” حتى رددناها ثلاث مرات وهمس بها فلسطين نعم.. فلسطين، وكأنه يصر على حقيقة يرفضها من حوله. أغلق الكتاب المقرر، ونزع نظارته ووضعها جانباً فقال:

 

 

“ابنائي.. ستسمعون الكثير من المسميات، سيحاولون أن يحشوا رؤوسكم بالتفاصيل، بشروط وبنود الاتفاقيات التي تسمى بأسماء العواصم العالمية تارة وبحدود مع تواريخ تارة أخرى. سيحاولون من خلال هذا أن يفاوضوكم، أن يناقشوكم حتى تضيعوا في التفاصيل، أن تعجزوا عن رؤية الصورة الأشمل حين تغرقوا في الدفاع عن الجزء، وتنسون الكل. وحين تطول مدة المفاوضات، سييأس البعض، سيسلمون ويرضون بالأقل وكأن الحقوق تقسم أجزاء. علموا ابنائكم، لقنوهم، اذكروا لأحبائكم، أخبروا صحبكم، ومن مر بكم، وإياكم والنسيان. الحق واحد، الحق قديم، الحق واحد واسمه: فلسطين من البحر إلى النهر. فلسطين بكل شبر، بكل شجرة زيتون، وما دون ذلك مغتصب.

FacebookTwitterGoogle+WhatsApp
  1. المثالي اون لاين

    2017/08/09 - 02:19 م

    مشكووووووور

أضف تعليقك

*

أهم التدوينات