26cain-superJumbo
ليست لديك مقومات القادة؟ جيد! فالعالم يحتاج مزيدا من الأتباع.

التمجيد الزائد للمهارات القيادية، وخاصة عند القبول في الجامعات، أفرغ القيادة من معناها الحقيقي

من مقال سوزان كاين في النيويورك تايمز 24 مارس 2017  – ترجمة: مبارك الغانم @Mbarakgh

في عام 1934، تقدمت  شابة اسمها سارة بولارد بطلب للانضمام إلى جامعة فاسر في نيويورك. أحد متطلبات القبول في تلك الأيام كانت أن يقوم والدي الطالب بتعبئة استبيان خاص بابنهم. في ذلك الاستبيان كان والد سارة صريحا في وصفه لابنته بأنها “تابعة أكثر منها قائدة.”

بالرغم من هذا الوصف، قبلت الجامعة سارة وعلقت قائلة: “بأن الجامعة لديها ما يكفيها من القادة.”

إنه لمن الصعب تخيل هذا السيناريو في الوقت الحاضر. لايوجد ولي أمر عاقل اليوم ممن يمكن أن يعترف أن ابنه “تابع بالفطرة” وإن فعل فقليلة جدا هي الكليات التي ستستقبله بأذرع مفتوحة. في هذا الزمن نحن نضع أهمية الصفات القيادية فوق جميع الصفات الأخرى وخاصة عند القبول في الجامعات. كما ذكرت بيني باخ ايفينز، رئيسة مدرسة سينت بول للفتيات، (مدرسة مستقلة في ماري لاند) “يبدو أن الدراسات الجامعية تبحث عن ذوي شخصيات ألفا[1]، ولكن أغلبية الفاعلين و المفكرين في مدارسنا لا يفضلون القيادة.”

جامعة هارفرد تبين ضمن طلب القبول للجامعة أن مهمتها هي “تعليم طلابنا ليصبحوا مواطنين وقادة مواطنين في المجتمع.” موقع جامعة ييل يخبر المتقدين للجامعة بأنها تبحث عن “قادة هذا الجيل” ؛ ويضع موقع جامعة برينستون “الأنشطة القيادية” في المرتبة الأولى بين الصفات التي يجب أن يتحلى بها الطلاب الجدد. حتى جامعة ويسليان والمعروفة بتركيزها على الفنون تقوم بتقييم المتقدمين الجدد بحسب إمكانياتهم القيادية بحسب أحد الدراسات.

اذا استخدمنا مقياس القبول في الجامعة لتحديد ماهية الشخصية المهمة في مجتمعاتنا و الصفات التي تتحلى بها، فيبدو أن المجتمع المثالي الذي ننشده هو مجتمع مكون فقط من أصحاب الشخصية “أ”.لعل تشابه معايير القبول في هذه الجامعات لا يكون مفاجئأ حتى لو أخذنا بعين الاعتبار المنافسة الشديدة بينها. إن الاحتفاء بأولئك الذين يرتفعون فوق الحشود لهو من ضمن مقومات المجتمع الأمريكي. وفي خلال العقود الأخيرة فإن الصعود الخارق لمراتب قيادية عالمية من بدايات متواضعة لأشخاص أمثال ستيف جوبز و مارك زوكربرغ جعل هذا الحلم يبدو ممكنا لكل شاب. لذلك نرى الآن طلاب الثانوية يتنافسون على قيادة أكثر نوادٍ مدرسية ممكنة. لا يكتفي الطالب اليوم بأن يكون عضوا في المجلس الطلابي بل يريد أن يدير المدرسة بأكملها.

بالرغم من ذلك فمن أجل أن يسير العمل بنجاح في أي هيئة طلابية (بل في أي تنظيم أياً كان) فإنه يحتاج للأتباع. كل تنظيم يحاول القيام بعمل جماعي يحتاج إلى لاعبي فريق كما يحتاج إلى أولئك الذين يعملون بطريقتهم الخاصة.

سيخبرك القائمون على القبول والتسجيل بأن تركيزهم على الصفات القيادية يعود إلى رغبتهم في تشجيع الطلاب على التأثير الإيجابي في المجتمع و الرقي بالعالم إلى الأفضل. اعتقد أن نيتهم صادقة في هذا الشأن.

ولكن كثيرا من الطلاب الذين تحدثت معهم يرون أن لفظ “المهارات القيادية” يعني السلطة والهيمنة، ويعرِفون القادة بأنهم أولئك الذين يصدرون الأوامر للآخرين. وبحسب أحد أساتذة الجامعات المرموقة فإن هؤلاء الطلاب ليسوا بعيدين عن الحقيقة حيث أن إجراءات القبول في الجامعات في كثير من الأحيان تحدد تعريف القيادة في المجالين السياسي والتجاري فقط . وتضيف بأن موظفي القبول والتسجيل يحجمون عن وصف القيادة بأنها على سبيل المثال “تحقيق سبق علمي في حل معادلات رياضية” أو “أن تكون أفضل شاعر في القرن.”

مهما كانت النوايا الحقيقية للجامعات فالواقع أن التركيز المتواصل على مبدأ القيادة يحدد ويقيد تصرفات المراهقين في هذا الجيل. أحد الشابات كانت تخبرني عن طفولتها كقارئة نهمة و عازفة للتشيللو حتى بدأت المرحلة الثانوية حيث تقول أنه  “عندما بدت طلبات القبول للجامعات تلوح في الأفق، حينها وفجأة أصبحت كل أنشطتي اليومية متصلة بالهدف الأسمى[2]: القيادة. وأضافت أن الجميع كان يعلم أن من يتم قبولهم هم ليسوا الأذكى أو الأكثر إبداعا أو الأعمق فكرا أو الأحسن أخلاقا، بل هم القادة. كان يبدو أن جميع الأنشطة لم يكن لها أي معنى إذا لم تكن متصلة بشكل ما بالقيادة.”

هذه الطالبة حاولت تغيير شخصيتها بالكامل من أجل أن تحصل على مركز قيادي مرموق في أحد الأنشطة المدرسية يدعى “مدرب الطلاب الجدد.” ونجحت في بادئ الأمر لكن تم طردها من المجموعة لاحقا لأنها لم تكن جريئة بالقدرالكافي. في حينها أحست بالإحباط والتحطم النفسي. ولكن في المقابل وجدت الوقت الكافي لاكتشاف شغفها الحقيقي: العلوم. بدأت بعدها بالدراسة بعد أوقات الدوام الرسمي مع مدرس علوم الجينات؛ أحد ألأبطال الجالسين وراء الكواليس. استطاعت نشر أول بحث علمي لها في سن 18 وفازت بأعلى بعثة علمية تقدمها جامعتها في تخصصين: هندسة الطب الحيوي وعزف التشيللو.

تبالغ الجامعات المرموقة في التركيز على القيادة لأنها إلى حد ما تعد الطلاب للخوض في العالم الرأسمالي وتفترض في الوقت نفسه أن الصفات القيادية هي وحدها المهمة في عالم الأعمال. ولكن فرعا جديدا في دراسات علم النفس التنظيمي بدأ بالانتشار يدعى “Followership” أو “حالة الأتباع.” في عام 1988 قام البروفيسور روبرت كيلي، أستاذ في الإدارة والسلوك التنظيمي، بتعريف هذا النوع من الدراسات في ورقة بحث مقدمة لهارفارد بزنس ريفيو وشرح الصفات اللتي يتمتع بها التابع الجيد، منها أن يسخر نفسه لفكرة أو مبدأ أو شخص معين بالإضافة إلى صفات أخرى كالشجاعة والأمانة والمصداقية،وهي صفات كانت تدرس منذ زمن طويل في التدريبات العسكرية.

في الفترة الأخيرة اتخذ بعض مفكري مجال الأعمال هذا المنحنى أيضا. البعض ركزعلى مضار الرؤية غير العلمية لنظريات القيادة والتي تؤدي إلى إلصاق كل أسباب نجاح أو فشل أي منظمة إلى قائدها، وتجاهل حشود الأتباع الذين عملوا معه. يقول آدم غرانت مؤلف العديد من الكتب عن دوافع الناس إلى النجاح، أن أكثر سؤال يصله من قرائه هو: “كيف يمكن لأحدهم أن يساهم في عمل ما دون أن يكون المسؤول الأول عنه، و في الوقت نفسه يريد أن يقدم أحد الاقتراحات وأن يكون رأيه مسموعا؟” ويضيف أن “هذه الأسئلة ليست من قادة، وإنما أسئلة جوهرية لحالة الأتباع.”

لاعبو الفريق مهمون أيضا. ابني يلعب كرة القدم باستمرار لذلك أقضي كثيرا من الأوقات في مشاهدة المباريات. إن الشيء الذي يميز هذه اللعبة هو ليس القيادة، مهما كانت أهمية وجود مدرب جيد، ولا اهتزاز الشباك بالأهداف رغم أننا نحتفل بالفوز بكل صخب.إن ما يميزها هي تلك الرقصة المتناغمة بين تشكيلات اللاعبين وتمريراتهم، عندما يرصد كل لاعب خلال لحظات نقاط قوة وضعف اللاعبين الآخرين، ويتألق حينها لثوان معدودة فقط حتى يمرر الكرة لفريقه، أو يفقدها للخصم.

نحن كمجتمع نعتمد بصورة أكبر بكثير مما نتصور على المتفردين الذين يشقون طريقهم بأنفسهم. نرى هذه الشخصيات في أنواع كثيرة من المجالات: في العلوم، في العديد من الرياضات مثل التنس، وألعاب القوى، والتزلج على الجليد، وفي الفنون. إن مجالي العلم والفنون يحتويان على الكثير من الأمور النبيلة التي قد يسخّر الإنسان حياته في خدمتها، ولكنها في صميمها ليست مرتبطة بالقيادة. نشرت هيلين فيندلر أستاذة اللغة الانجليزية في هارفارد مقالا حثت فيه الجامعة على اجتذاب المزيد من الفنانين وعدم توقع تحولهم إلى قادة. وأضافت أن بعضاً من هؤلاء الطلاب سيصبحون قادة في مجال الفنون كأن يصبح أحدهم قائد أوركسترا، “ولكننا لا نستطيع تصور بوديلير[3] وهو يسعى للحصول على وظيفة حكومية.”

لعل أكبر الأضرار الناتجة عن التمجيد الزائد للصفات القيادية هي لمفهوم القيادة نفسه، فقد فرغته من معناه الحقيقي. أصبحت القيادة تستهوي الذين يعشقون الأضواء بدل أن تقربهم من الأفكار والأشخاص الذين يخدمهم القائد. هذا التمجيد الزائد يغرس في الطلاب فكرة أن يصبحوا قادة من أجل المنصب بدل أن يجتهدوا من أجل فكرة سامية يؤمنون بها ويدافعون من أجلها. الفرق شاسع بين هاتين الحالتين. الحالة الأخيرة تنتمي للقيادة التحوّلية والتي نتج عنها أمثال مارتن لوثر كنج و غاندي، أما الحالة الأولى فكلنا رأينا أمثلتها السيئة على واقعنا مؤخرا.

إذا ترائى لك أن هذا التصور للقيادة مثالي أكثر من اللازم فتأمل معي الوضع الراهن: طلاب يتسابقون من أجل مراكز قيادية فقط لتجميل سيرتهم الذاتية. “كل منهم يريد أن يترأس 50 ناديا” يخبرني أحد مرشدي المدارس في نيو جيرسي “وهم لا يعرفون أصلا ما الذي يريدون قيادته.”

يمكن أن نعيش واقها مختلفا عن هذا.

ماذا لو أخبرنا المتقدمين للجامعات أن الصفات التي نبحث عنها ليست القيادية، بل التفوق والامتياز والشغف والرغبة في المساهمة في هدف سامٍ؟ يمكن لهذه المنظومة من الصفات أن تشمل أيضا قادة الفرق ولكنها لا تضع القيادة في المرتبة ألأعلى.

ماذا لو قلنا لقادة المستقبل: اقبل بهذا الدور القيادي في حالة واحدة فقط؛ عندما يهمك بشكل صادق وعميق ذاك الشيء الذي تريد العمل من أجله.

وماذا لو كنا أكثر صدقا مع أنفسنا وسألنا ما هي الأشياء الأكثر قيمة وأهمية في الحياة؟ إذا كنا نريد طلابا ومواطنين يتوقون للحصول على أكبر قدر ممكن من الثراء والسلطة فلنعترف بهذا. حينها يمكننا أن نبدأ نقاشا صادقا إن كان ذلك الهدف أفضل لنا ولمجتمعنا.

ولكن إذا كنا نطمح إلى مجتمع من المواطنين الملتزمين المتميزين الذين يتمتعون بصفات الخير والإبداع، ومن القادة الذين تحركهم رغبتهم لخدمة الناس لا المنصب، فعلينا أن نفعل المزيد من أجل أن يكون هذا هو الهدف الحقيقي والواضح للجميع.

رابط المقال الأصلي: https://www.nytimes.com/2017/03/24/opinion/sunday/not-leadership-material-good-the-world-needs-followers.html

 

[1] نظرية أن شخصيات البشر منقسمة الى قسمين: شخصية ألفا أو “أ” وشخصية بيتا أو “ب”. يتمتع أصحاب الشخصية “أ” بصفات القيادة و المثابرة و الطموح والتنافسية بينما يميل أصحاب الشخصية “ب” إلى تجنب المنافسة الشديدة والضغوط النفسية العالية والاستمتاع بالرحلة عوضا عن التوق للوصول للهدف.

[2] التعبير كما ورد في النص الأصلي هو holy grail  أو الكأس المقدسة وارتأيت ترجمتها ل “الهدف الأسمى” لتبيين المعنى وراء التعبير فقط حيث أن تعبير “الكأس المقدسة” بالمعنى الدارج في اللغة الانجليزية غير متداول في اللغة العربية.

[3] تشارلز بوديلير: شاعر فرنسي

FacebookTwitterGoogle+WhatsApp

أضف تعليقك

*

أهم التدوينات