ما نحن إلا نسخ حقيقة من أحلامنا، صور رديئة في أغلب الأحيان لما أردناه أو واقع أجمل مما هو في مخيلتنا في أحيان أخرى قليلة. وقد نلت حظي من تلك النسخ في طفولتي التي كانت أكثر مما أذكر، ثم راحت الحياة تسلب ذاك الطفل نسخه التي جمعها في أحلامه ويقظته يوما بعد يوم، حتى أبقت على هذه النسخة الحالية مما نختصره لغوياً بثلاثة أحرف: أ ن أ. لشدة ما أضحك على كثرة هذه النسخ حين اتذكرها، لكن وكما قال الطنطاوي –رحمه الله- في بعض مقالاته، اجلالاً مني لذاك الصغير وإكباراً مني لطموحه اكتفي بالمرور على بعضها سريعا، وإن كانت دقائقها وتفاصيلها محفوظة لديه، فأنا اليوم لا اذكر منها سوى بضعة خطوط عامة. ففي إحدى النسخ كنت اعمل في الغرب، كعالم فيزياء يلحق بركب آينشتاين وبوهر، وهايزنبيرغ. ثم أردت العلم الشرعي فراقت لي فكرة طلب العلم! حلمت بأن انضم لقافلة العلماء الربانيين الذي سجل التاريخ ثباتهم على الحق وزهدهم في الدنيا. كالشافعي، وابن الجوزي وغيرهم. هناك نسخة مني كانت تتوق للريادة، وأخرى أرادت الرسم حرفة وغيرها من النسخ.
ولا أدري متى ضنّت علي الحياة بالوصول إلى هذه النسخ، أو متى عدلت عن هذه النسخ من نفسي إلى نسخ أخرى بقصد أو دون قصد. لطالما انكببت على الكتب سعيا لبلوغ هذه النسخة من نفسي، هل يمكن أن نعيش نسخة مغايرة لنسختنا الحقيقية؟ يبدو لي ذلك، فإما أن يبحث المرء عن ذاته فلا يعثر عليها، أو يفقدها في دروب الحياة دون رجعة. وحين امعن النظر بين النسخ وما يجمعها تلوح لي معالم شخص أستطيع أن أشير إليه بشوق: هذا أنا، من بينها جميعا..أنا! جميع هذه النسخ تعشق الحرية، وتكره الجمود، وتتعلق بالسماء على استحياء مما تصنع فهي متذبذبة بين معاقرة الذنوب والتوبة منها. وجميعها لا تريد القيادة لكنها تجد نفسها قريبة منها وتمقت ما يختلط بها وما يترتب عليها. وتريد فوق هذا كله أن يخلد التاريخ اسمها.
اضف إلى هذا أنها لا تبحث عن المال والجاه. أهو الزهد؟ كلا. إنما الزهد فيما اشتهت نفسك فعدلت عنه رغبة في غاية أسمى، ولَم أولد ورغبة جمع النقود أو الثراء مركبة فيني. إنما أردته لمن حولي وعليه فجميع هذه النسخ لم ترغب بالمال بقدر ما أرادت السعادة لأكبر عدد من البشر، إما باكتشافات علمية، أو وقفات إنسانية، أو مشاريع خيرية. قد تبدو هذه القواسم مشتتة، مبعثرة أو عامة لا يربطها شيء. لكنها رسمة باهتة لمعالم تزيدها الأيام صراحة، فتكون نسخة لما أودّ رؤيته.. نفسي.
وقد كنت أفرض بعض النسخ على نفسي فألبسها ما يضيق عليها أو يبدو فضفاضا عليها. لكنني ومع الوقت أخذت اقبل نفسي بغية فهمها والعيش معها دون خصام. علك تجد هذا غريبا بعض الشيء، لكني وفِي معترك الحياة مررت بكثير ممن يعيش في خصام مع نفسه بل وأكثر هؤلاء لا يدري بأنه ونفسه كذلك! مثلا، قد يحسب المرء أنني وبسبب الجرأة، بأني شخص اجتماعي لا أفوت مجلسا ولا جمعا إلا كنت فيه لكني على العكس أرى نفسي تميل للعزلة والقراءة، والتأمل و الكتابة، تماما على عكس ما يخيل للناس أو يريدون مني. لذلك اكتفي بقدر يسير من صحبتهم، والجلوس إليهم، وانتقي منهم ما ينتقي المرء ليكفي حاجته دونما اسراف.
نسخة واحدة، تتعلق بي بالرغم من التخلي عنها، نسخة لا تحكم علي، ولا تعاتبني على تقصير في الوصول عليها كما ينبغي بدأب ومثابرة، كما يفترض في كل من أرادها من اصرار وجدية. تحنو علي حنو والدة بابنها العاق، فلا تصبر على أذاه، ولا تستطيع الدعاء عليه. يخيل لي أحيانا أنها تنظر إلي، وأننا نلتقي لبرهة بين الحين والآخر حين التقط القلم وأبدا بالكتابة، حين احمل القلم، أو اهم بطباعة الحروف وهي نسخة الكاتب مني.
إليها وإلى باقي النسخ التي كانت ولَم تكن: كل عام و”أنتم” بخير.
Amal
2017/03/17 - 12:02 م
كل عام وجميع النسخ بكل خير وسعادة ونجاح
جميع تدويناتك تدخل القلب مباشرة ..
كيف لشخص أن يكتب ما نشعر به ..
كيف يمكن لكلماته أن تحاكي القلب من شدة جمالها ..
ولكن بصراحة لا أعلم لماذا أشعر بالحزن عند قراءة مدونتك
Um3azzan
2017/03/23 - 09:56 ص
كل عام وأنتم بخير
تدوينة جميلة أعادتني لنسخي القديمة بل وذكرتني انني ما زلت أسعى في بعضها لليوم. أظنها نفسنا التي تأبى أن ترفض حلما مهما صعب تحقيقه لكن القضية الحقيقة هي هل نسعى نحو تلك النسخ؟! وفقك الله في مسيرة نسخك الحالية والمستقبلية