x-blackboard
الدرس الأهم

 

الغالية منيرة،

 

ها قد انصرم عامك الدراسي الأول، سنة مضت وبقي أمامك سنوات طويلة وكما نقول – العمر كله يا بنيتي-  ووسط تمازج الألوان، ورسم الحروف، ومعرفة الأرقام كان هناك درس واحد، عله الأهم في عامك هذا وقد وجدت الحاجة لتدوينه كي تعودي إليه بين الحين والآخر فتذكري نفسك به، إذ امتد بي العمر لأيقن أن أثمن الدروس أيسرها نسيانا.

 

لم يكن الدرس شيئاً تعلمتيه في المدرسة أو خصلة رُبيت عليها بعد، بل كان موقفاً تجلت فيه فطرة جُبلت عليها اسأل الله أن تبقى بك ما حييت أبدا.

==

 

رجعت من المدرسة حزينة قلقة، وخائفة لا تودين الحديث حتى إذا لاطفتك أمك، وكل أم لابنتها مستودع من الأماني والمخاوف، انفجرت باكية يتراعد جسدك الصغير ذعراً وتجهشين بالبكاء: “بيحرق بابا، وقال بعد بيحرقنا كلنا” شحبت والدتك أمام هول ما تسمع، وقد اتضح أن طفلاً لم يتجاوز الخامسة قد هددك في الفصل بأنه سيحرق بابا وماما وأخاك الصغير!

عل البعض سيضحك، ويهون من المسألة على أنها شقاوة أطفال، ويقلل من ذاك التهديد الذي تجسد حقيقة أمامك فأصابك بالذعر خوفا على والديك وشفقة بأخيك الصغير. قدر الله أن أكون مسافراً حينها فلما بلغني الأمر غاب عني كل ما يدعو للتعقل حتى عمر هذا الأحمق، وجعلت أكيل السباب لوالديه على قلة اهتمامهم بهذا الأخرق الذي سيكبر ولا يعلم إلا الله ما ينتهي به المطاف! وتوعدت، وأزبدت، وأرعدت فكانت والدتك تذكرني بعمره فلا يزيدني هذا إلا غضباً!

 

اعذريني ابنتي فأنا والد شرقي، وسأبقى ما حييت كذلك، عاطفتي تجاهك تعني أني لا آبه بالدنيا في سبيل سعادتك، فكيف إن كان فيها من ينغص عيشك ولو بكلمة؟ وفي اليوم التالي تم اخطار المدرسة واتضح أن الطفل قد توعد غيرك بالأمر ذاته، وتم إبلاغ والديه وبعدها أخذ بقية زملائك تجنب الحديث معه. وذات يوم فوجئت والدتك حين أتت لاصطحابك من المدرسة بأنك تتحدثين معه وتلعبين وكأن شيئاً لم يكن! حتى إذا رأيت والدتك فطنت لدهشتها، فجلست تفاتحينها في الأمر: “ماما أنا أدري إنه قال قبل بيحرق..” وغص حلقك وكأن مجرد الإتيان على الحادثة لا زال يؤلمك فأكملت: “قال سوري، ومسكين ما عنده حد يلعب معاه حرام نخليه بروحه!”

 

أي درس هذا الذي تذكرين والدك به يا منيرة؟

ما أحوجنا لهذا بنيتي، أن نغفر الاساءة وندفع بالتي هي أحسن، فنحن يا صغيرتي نعيش في عصر قد يعد الأحلك في عمر أوطاننا أو ما تبقى منها. يُحرق الأسرى، وتفجر المساجد، تنتهك الحرمات وتبرر السرقات، بل بلغ الجنون ببعضنا أن يقتل باسم الدين والديه، ويحاول البعض أن يفجر مكانا دفن فيه خير البرية محمد – صلى الله عليه وسلم- في شهر رمضان! فلا حرمة لزمان ولا قدسية لمكان.  فلأي شيء استغرب أن يهدد طفل لم يبلغ الخامسة زميلته في الفصل بالحرق؟ غلظت نفوسنا، وقست قلوبنا وبات صالحنا يدعو على العاصي منا، والعاصي يكيد بالصالح، وأصبحنا لا نأمن جنب بعضنا البعض.  

 

على أن طبعاً كهذا -أي الصفح- يسوء الدنيا، ويسوء الكثير من أهلها فقد يلومك البعض ويقول أن هذا ضعف وسذاجة. لا تصدقي، فالمغفرة والصفح أحياناً يتطلبان قدراً أكبر من الشجاعة وقد وجدت من يفعل ذلك من أوفر الناس عقلا وأشدهم قوة. فلا عليك، كوني كما أرادت لك السماء حينها وسيرعاك الله ولن يضيعك أبداً.

 

المحب لك أبداً،

بابا

FacebookTwitterGoogle+WhatsApp
  1. ربى

    2016/09/17 - 01:58 م

    كــلام جــدا جــميل و مــؤثر اســـتمر فــي كــتابة إبـــداعاتك..

أضف تعليقك

*

أهم التدوينات