تنويه: هذه قصة واقعية تم تغيير اسم الناقة، وما عدا ذلك فبقية الأسماء، والأحداث، والخادمة الفلبينية والاختبار لتحري الدقة للأسف لم يتم تغييرهم.
جلس الآباء في غرف الانتظار مع أطفالهم، لم تكن هذه غرفة انتظار في مستشفى، ولم تكن صالة انتظار في سفارة نحمل ألف دليل وطلب طمعاً في الحصول على فيزا لعدة أشهر ويطير المرء فرحاً بفيزا لعدة سنوات وكأنه حاز على صحيفته بيمينه. كانت غرفة انتظار في مدرسة خاصة حيث ينتظر الآباء اجراء اختبارات قبول لأبنائهم البالغ أعمارهم ثلاث سنوات.
وعلك تسأل ما يمكن سؤال طفل لم يبلغ الخامسة من عمره، لكن هناك اختبار يقيس مدى تعرفهم على الأشكال، وتمييزهم للألوان، وعدهم للأرقام، ومعرفتهم بالحيوانات – أجلكم الله – ولك الحق عزيزي القارئ أن تسأل:
هل يسقط بعض الأطفال في الاختبار فلا يتم قبولهم في المدرسة؟
الإجابة: نعم
هل يتم التوسط لنفس الأطفال للدخول في المدرسة؟
نعم.
هل يتم قبول الواسطة؟
نعم يا حبيبي نعم.
وحين كان القلة من الأطفال مع آبائهم كان هذا الطفل البسيط يجلس بالقرب من خادمته، ولا أدري لِم لَم يأت والداه، وهل كان هذا الحدث قبل أن تسن الأنظمة التي تلزم الوالدين بالحضور مع أطفالهم؟ أصلاً لا أدري إن وجدت هذه القوانين لكن حسن النية يلزم في مثل هذه المواقف.
لا يميز هذا الطفل شيء وعل هذا ما يميزه، شعر مرجّل، وبشرة سمراء، وثوب ناصع البياض كبراءة طفل في مثل عمره. لاح للناظر وكأنه مسافر عبر الزمن.. طفل من الثمانينات، لا ينظر في جهاز إلكتروني، عيناه فيهما شعلة نشاط، يبتسم لمن ينظر إليه وفيه من البراءة التي تحتم عليك أن تبادله ابتسامته بابتسامة أخرى. كائن حي تتفاعل معه، بخلاف أطفال اليوم الذين يبدون وكأنهم جزء لاصق باللوح الإلكتروني، لا تستطيع النظر إلى أعينهم، مجرّد وجوه نكست وتعكس إضاءة لوح رقمي تحمله.
ولجت المدرسة المسؤولة عن الاختبار إلى غرفة الانتظار تحمل أوراقاً في يدها، تنظر وكأنها تعاين ضحاياها، ولو قال لي أحدهم أنها خلقت من الثلج لما جادلته، إذ اتسمت بالبرود والصرامة. وعلها ألقت الذعر في قلوب الآباء أضعاف ما ألقت في قلوب الأطفال، إذ راحوا يبحثون في هواتفهم النقالة عن الواسطة تحسباً واحتياطاً. صمتت لوهلة، جالت بعينها فقالت:
“همد” هكذا صدر اسم الطفل مشوهاً في فمها الأجنبي.
قفز الطفل وما أعذب وأكثر عفوية كلمة: هلا، لكن الكلمة – أي هلا- لم تلق من يبادلها حفاوة، بل قيل له:
ذس وي –أي من هنا-
جذبته الخادمة ودخلا معا إلى الغرفة ذات الألوان الزاهية، وعل الشيء الذي سرعان ما يلوح لك هو أن اللغة العربية لم تدخل هذه الغرفة برسوماتها وزخارفها، بملصقاتها ولوحاتها، وبكتبها المصفوفة بعناية تامة ذات يوم، أو أن اللغة العربية دخلت فأهينت وطردت. على أية حال لا أثر لها.
الخادمة لم يكن يعنيها نجاح أو سقوط حمد بالقدر الذي يعنيها عدد الدقائق ببطاقة الجوال المسبق الدفع، وعليه فحمد جاهد حتى يصل للرقم عشرة وكابد لتمييز الألوان بالإنجليزية. وظلت الخادمة صامتة تنظر ببرود للرسومات على جدران الغرفة.
ثم جاء اختبار التعرف على الحيوانات، وإذ بالمدرسة ترفع لوحة بكلتا يديها إلى حمد الذي صرخ:
ناقة! قالها بزهو وفخر.. قالها بثقة، هذه الثقة التي تظهر في إجابات الأطفال هي أقرب للعقيدة، وأشبه بالإيمان بصدق الإجابة لتعلقها بذكرى حاضرة.
لكن الغرفة ظلت صامتة، برسوماتها وزخارفها، بملصقاتها ولوحاتها، وبكتبها المصفوفة بعناية تامة, بالخادمة، والمدرسة التي ابتسمت ببرود كما تملي اللباقة عليها.
أعادها مرةً أخرى: ناقة! قالها مؤكداً إجابته فلربما لم تسمعا إجابته.
ناقة! نظر للخادمة والمدرسة وقد بدأ الشك يساوره.
ناقة؟ خفض صوته وأخذ الشك مأخذه من صوته فارتعش واضطرب، وأخذت عينه تبحث عمن يعينه وأخذ يفرك أصابعه في قلق واضح.
قالت المدرسة موجهة، وملقنة ” إتس أ كمل همد.. كا مل”
نو..ناقة! قالها بعصبية واغرورقت عيناه بالدمع. أصر حمد على الاسم، على صحته، على أن الجميع في ذلك العالم الذي جاء منه والذي يحوي هذا الاسم هم جزء من الصواب. في حين أن هذا اللفظ الذي سمعه لتوه هو خلط أو التباس على الكبار الذين يمتحنونه الآن، هو اسم الكائن الذي يرى صورته! أي معنى لهذا كله؟ وإن صح أن اسمه “كمل” كما سمع، فماذا عن بقية الاسماء، وعن بقية الأشياء؟ ماذا عن بابا وماما؟
“قول كمل همد.. قول” انتفضت الخادمة قائلة، علها ضجت بهذا كله وضاقت ذرعاً تبا للمدام التي أوكلت لها هذه المهمة.
نا… ثم هو سكوت المهزوم أو المخذول، الذي أيقن بأن ما تعلمه، أن اسم هذا الكائن الذي تمثل صورته أمامه ليس ما تعلمه، ليس ذلك الذي هو جزء من تلك الذكرى الحاضرة.
“كمل..” سكت وكأني به يشيع ذاك الاسم القديم بداخله، وداعاً للناقة.. وداعاً للذكرى التي يحملها حيث تعلم اسم هذا الكائن الحي، ومرحباً بالعالم الجديد حيث اسمه كمل.
ضحكت المدرسة هنأته، بل صفقت طرباً وتشجيعاً له، صفقت الخادمة، وضحك همد فرحاً بالإجابة الصحيحة، ضحكت الغرفة، زهت ألوانها، ودبت الحياة في رسوماتها وزخارفها، ومالت الكتب ذات اليمين والشمال طرباً بالإجابة نعم.. كمل!
همد شاطر وسيجتاز الاختبار وسيدخل إلى هذا المبنى حيث يتم تغيير كل اسم مر به شيئاً فشيئا، ويمكن القناعات أيضاً التي تترتب على هذه الاسماء. نعم، لا حاجة لنا للدراما، سيكبر همد، وسيتعلم أن للكائن كبقية الأشياء اسم في كل لغة، وسيتوجب عليه أن يوازن بين هاذين العالمين، عالم يكبر معه في كل لحظة، وعالم آخر يندثر أمام عينيه. هناك احتمال كبير أن يختلط عليه الأمر ويضل الطريق، ولن يكون أول طالب ولا آخر طالب بالرغم من صدق نوايانا فلا زلنا نحن ضائعين في دهاليز ذاك المبنى، في تلك المدرسة حيث تغيب اللغة العربية، كلما أوغلنا في طرقاتها، وممراتها.
****
رسالة مفتوحة أتمنى أن تصل إليك.
بني الغالي حمد،
أتمنى أن تجمعك الأقدار بهذه الصفحة ذات يوم، لأني لم أكن هناك أثناء اختبارك، لا أعرفك ولا تربطني بك قرابة ولكن شهد الله أني ما رضيت إذ سمعت، وانكسر شيء عزيز علي وأنا اسمع كيف نزعوا عنك لفظا ورد في القرآن لنفس الكائن الذي رأيت هي ناقة كما أجبت. هكذا وصفها ربنا، وهكذا هو اسمها. سامحنا الله إذ جعلناهم يلقنونكم في نعومة أظفاركم لفظاً غير ذاك الذي تتألمون به.
شهد الله أني كنت سأقتحم تلك الغرفة، فأجثو على ركبتي واحضنك إلي فأنت ابن هذا المجتمع، و والله كنت سأقول للخادمة وللمدرسة ولهذه الغرفة برسومها وزخارفها، بملصقاتها ولوحاتها، وبكتبها المصفوفة بعناية تامة: حمد صح، وكلنا خطأ في خطأ!
غادة
2016/06/09 - 02:17 م
رائعة! القصة أسرتني من بدايتها لنهايتها بلغة جميلة و سلسة
لكن كون الأجيال القادمة ستكون ثنائية اللغة أمر مسلّم به، التحدي يكمن في الموازنة بين اللغتين بألسنة أبنائنا
بارك الله فيك شكراً على هذه القصة الممتعة