الدكتور جيفاكو، يقال أن هذه الرواية هي آخر عمل ملحمي روسي حقيق بإلحاقه بفترة عظماء الأدب الروسي. اقتنيت الكتاب منذ مدة، لكن لم تحن فرصة لوقت طويل نظراً لتعلقي بمشاريع قراءة أخرى وفي نوع من العتب أخذ هذا الكتاب ينظر إلي في كل مرة التقطت فيها كتابا سواه، أو نظرت إليه فساورني الشك في قدرتي على الفراغ نظراً لضخامته، إذ تقع الرواية في سبعمئة وخمسين صفحة تقريباً، وعلاوة على ذاك فأسلوب الكاتب باسترناك يميل للتعقيد في وجود كم هائل من الشخصيات التي تتداخل مع بعضها البعض في حوادث أساسية وأخرى ثانوية.
لكن الوقت حان لنتعرف على بعضنا البعض أخيراً، فالتقطت الكتاب وسافرت معه إلى جزر المالديف، هناك وتحت أشعة الشمس وظلال أشجار جوز الهند، وفي جو استوائي يتسم بالسلام والسكينة، كنت أقرأ بنهم في محاولة لمعرفة نهاية الحرب الأهلية الروسية بين البيض والحمر وسط أعاصير ثلجية. وكثيراً ما أضعت الكتاب حتى ظننت أني لن اعثر عليه ليتسابق طفليّ الصغيرين منيرة ومشعل في جلب الكتاب لي، كما تصرف القدر في اجتماع وافتراق يوري أندريفيتش جيفاكو ولاريسا فيدروفنا غيشار. ثم أني مرضت وظل الكتاب بجانبي، فكنت أفيق من الحمى، واهرب من أشباح الماضي فأقرأ قبل أن تعاودني الحمى الزيارة مرة أخرى، وأدهش أن جيفاكو يمر بحمى ويهذي ويختلط عليه الأمر. وعدت إلى الدوحة بشوق، كما عاد جيفاكو لموسكو فانتهيت منه في ليلة ما، وقد كنت متأثراً في النهاية بما أصاب الشخصيات الرئيسية، واعتراني ما يعتري فراق شخصيات خيالية لكنها أكثر حقيقة من كثير ممن قابلت على أرض الواقع. عله مزيج من العرفان والأسى لفراق هذه الشخصيات، خاصة أن كتاباً بحجم رواية الدكتور جيفاكو، وكاتبا بروعة بسترناك كفيلان بمنحك الكثير من الأفكار والشخصيات الأصيلة التي لا تصادفها في معترك الحياة بنمطها المتسارع والمتكلف.
اليوم عاد الكتاب مرة أخرى إلى ارفف مكتبتي بجانب كتب أخرى تمت قراءتها وأخرى لا زالت تنتظر بفارغ الصبر موعداً يجمعنا. كتاب الدكتور جيفاكو، في ثنياه حبيبات رمل شاطئ، وملح بحر، وفي بعض فصوله بقايا رائحة المحيط. هذا الكتاب منحني الكثير، وشاطر معي الكثير أيضاً، واليوم حين تقع عيني عليه لا أتذكر يوري ولارا فقط، بل أذكر عطلتي الجميلة مع عائلتي الصغيرة.
تصور حين يكتظ رف مكتبتك بكتب أهدت إليك، وحملت ذكرى وشاطرتها معك، ثم أخذت تنظر إليها عاماً بعد عام كألبوم ذكريات حي لا يحتاج لصور، تنهمر الذكريات دفعةً واحدة دون مقدمات كمطر استوائي لبرهة، ثم يسود إحساس يبعث فيك دفئا بجانب الدفء الذي تبثه الكتب في من ينظر إليها كشمس المالديف.
وهذا وأكثر، ما تعجز الكتب الرقمية بمتصفحاتها من منحك إياه حين تكون وسيلتك الوحيدة إلى عالم الكتب.