٣٧ عاما من الخوف والحب.

يقال بأن أعقد المشاعر البشرية الخوف، والدلائل على ذلك كثيرة حيث ترى بأن ضحايا حادث معين لا يستطيعون التحكم بردود أفعالهم إذا ما وضعوا في نفس الموقف، أو تعرفوا على بعض أوجه الشبه بين ما عايشوه وما يعاينونه. وهكذا كان قدري أن تكون أقدم ذكرياتي مرتبطة بالخوف. وحين أفكر في هذه الذكرى تبدو عادية جداً، وقد أهونها اليوم وقد قاربت الأربعين لكن هذا الخوف مما شعرت به حينها أخذ يكبر معي دون علم مني، فلم أستطع أن أخرج من دائرته التي أصبح قطرها يسابق نضجي في كل مراحلي. اليوم، يبدو الأمر واضحاً وجلياً وفهمت نفسي على نحو أكبر حين فهمت أن الخوف كان المدى الذي أستطيع أن أصل له، ولو أني أمعنت لرأيت ما بعده من حب يلوح في الأفق لكن هو ذات الخوف الذي ارتبط بتلك الذكرى الذي حال بيني وبين ما بعده.

ثم جاء الحب، وللحب صور وهيئات يظلمها من يحصرها فقط في عاطفة بين اثنين بل كان الحب عندي ولا زال كما وصفه ابن القيم:  

فلولا الحب ما دارت الأفلاك، ولا تحركت الكواكب النيرات، ولا هبت الرياح المسخرات، ولا مرت السحب الحاملات، ولا تحركت الأجنة في بطون الأمهات، ولا انصدع عن الحب أنواع النبات، ولا اضطربت الأمواج الزاخرات، ولا تحركت المدبرات والمقسمات، ولا سبحت بحمد فاطرها الأرضون والسماوات، وما فيها من أنواع المخلوقات.

تعلمت بأن ألمح هذا الحب في كل صوره، كنت أراه ولا أفهمه. هل يبدو هذا غريبا؟ نعم أن تعتقد أنك تفهم كلمة بسيطة، دارجة، مبتذلة وكثيرة التداول، لكن أقرب ما تكون لها هو قربك من قطعة حلي باهظة لا تملك ثمنها وتكتفي للنظر إليها عبر لوح زجاجي، ثم تتشدق بمعرفتها وأكثر من ذلك بأنك تدعي حيازتها لمجرد النظر إليها كل يوم. وقد أراد الله بي خيراً فكنت التقط كتباً من أرففها، وأتعرف على أناس في مجالسها، فتلقنت من الكتب وتعلمت من الرجال. فلا زال بي هذا الحب في كل صوره يدفعني ويحثني على تجاوز هذه الدائرة وأنا بين تردد عاثر، ومشي حائر فتارة بين حماس وتارة بين يأس. ولن أطيل عليكم فاليوم وبعد مضي هذا العمر أعني سبع وثلاثون عاماً اسرد عليكم هذه النقاط التي أحسها ولا أستطيع التعبير عنها:

– المشاعر في أصلها ترجع إلى الحب أو الخوف وقد تعجب فتقول أليس البغض أو الكره أقرب لكونه نقيضا للحب؟ لكن الأضداد لا تعني كمال الصورة بالضرورة ولا اكتمال المعنى. الكره على سبيل المثال مرده الخوف من حب الآخر، لأن الحب كما سيأتي يتطلب جهداً، والحب في أدنى مراتبه القبول وتقبل الآخر وعليه تجد البعض يرفض الآخر لعلمه بأن القبول به يعني جهداً لا يطيقه ولا يصبر عليه.

– الحب يتمدد ولا حيز له أو نسبة أو قدر بذاته. حبك لأحدهم لا يعني بغضك لآخر، الحب ينمو بعدد من تحب، وأتمنى من الشباب ألا يجدوا في هذا ذريعة ليكون قلبهم لوكاندة المحبة وبنسيون الأُنس. وقد كنت أقسم بأن منيرة –حفظها الله- أخذت من فؤادي حتى لم تبق لمن بعدها من إخوتها شيئاً فجاء مشعل –أطال الله في عمره-  فوجدت قلبي ينمو بمحبته ليسعهما. وعليه فكلما زاد عدد من تحب، زاد قلبك قدرة على استيعاب هذا الحب، وتطلب منك بذلاً أكبر للتعبير عنه.

-الحب يتطلب الجهد، والصبر والتعب فلتحب عملاً فنياً عليك التمعن فيه، ولمحبة شخصية روائية عليك قراءة الرواية، ولتهيم بأحدهم عليك أن تفهمه أولا، وما دون ذلك فشهوة لا أصل لها من الحب، في حين أن البغض على عكس ذلك لا يتطلب منك أية جهد ولا بذل أي مشقة.

– الحب يدفعك للأبداع، فالعاشق لعمله يمضي ساعات طوال دون الانتباه للوقت أو إعارته أي اهتمام في حين أن الخوف يدفعك للتحجر والتعلق بما تعلم والتذمر من العمل على طرح الجديد.   

– أجزم بأن قيمة الإنسان تكمن في قدرته على بذل الحب وأخذه، أن تنهل من حب والديك فتمنحه لفلذات كبدك، أن تنهل حب وطنك فتمنحه لأخوتك في هذا الوطن وقد يكون البذل متجسداً في تضحيتك بحريتك أو دمك، أن تنهل من المعرفة فتمنحها لعملك. بل زد عليه بأن قيمة الإنسان في قدرته على أن يجعل من وجوده مصفاة تأخذ الحب بما اختلط به من مشاعر تحوم حول الخوف كالحسد والكره، لتغربلها نفسه وتنقيها وتمنحها صافية بأنقى صور الحب، بأن تكون الحاجز حيث يقف الخوف ويمر الحب بصوره من خلالك. ألست ترى أن الرسل – عليهم السلام – أقدر الناس على المحبة؟  يحبون من يكذبهم ويبغضهم، يدعون له ويرجون رحمة الله له بل لا ييأسون من هدايته. وبأبي وأمي هو – عليه الصلاة والسلام – إذ وسع قلبه أجيالاً من بعده وأمة باقية إلى يوم القيامة بأعداد هائلة فأي قلب كان لهذا العظيم؟

– أعظم مراتب النفس البشرية هو محبتك للحياة بجميع صورها ونعمها، وأن تصر على ترجمة هذا الحب بأن تكون الحياة هذه أجمل للأجيال القادمة من بعدك.

صبرت عمراً طويلاً، وبذلت جهداً كبيراً كي اجتاز هذا الخوف ودائرته التي أحسها دائماً تحاول أن تطوقني وأن تطبق علي طوال عمري، لأجد نفسي بعد سبع وثلاثين عاما أسرد قصة نوم على صغيرتي منيرة، فقاطعتني فجأة وجذبتني إليها في الظلمة فقالت: بابا لا تسافر.

فقلت: ومن قال إني بسافر؟ “وقد كننت متغيباً لبضع أيام في سفر لعهد قريب”  

فقالت: بس لا تسافر، لأنه.. لأنك يوم تسافر.. أصيح لأني أحبك.

رباه، أي حب هذا الذي يتجلى في أنقى صوره أن تبكي هذه الصغيرة، وفي دموعها أبلغ مما كتبت عن الحب ومما استطيع أن اكتب لو حييت ألف عام؟

احتضنتها وأنا أهدأ من روع “بنت أبوها” كما تصفها والدتها، في ظلمة هذه الغرفة، في ذلك الحي، في تلك البلدة وعلى سطح كوكب يتيم في مجرة من ضمن ملايين المجرات في كون آخذ في التمدد، شخصت ببصري إلى الأعلى، أنا إنسان من ضمن مليارات البشر: “سبع وثلاثون عاما ولا زال حبك وعطفك يغمرني حتى وإن كنت لا استحقه فالحمد لك حمداً يليق بجلالك” هكذا همست وصغيرتي تنام بجانبي.

FacebookTwitterGoogle+WhatsApp
  1. yazeed.net

    2016/03/14 - 05:58 ص

    احببت ما سطرت .. يساعدنا على تفهم بعض السلبيات التي تتراكم بداخلنا من مشاعر غير نقية عديمة الحب تدفعنا للثورة و الغضب احيانا و التوعد دونما فائدة تذكر في نهاية المطاف .. جميل جدا غسل المشاعر هنا و نشرها تحت شمس التأمل لمشاهدتها من جديد .. دمت بخير .

أضف تعليقك

*

أهم التدوينات