سكون، وضجيج.

استغل ساعات الفجر في القراءة والمطالعة لكن في كل مرة انشغل عن هذا بملاحظة السكون الذي يكتنف البيت، ويعم أرجائه، أعني أن أضع الكتاب جانبا وأترك لعيناي أن تتعودا الظلام من حولهما، وأصوخ السمع.  غريب هذا الصمت، قبل سويعات كانت الحياة تدب فيه بين صراخ الأطفال، وصوت التلفاز، والأجهزة اللوحية، وجلبة الحركة، أصوات اللعب والأصوات المنبعثة المطبخ والآن لا حراك سوى صوت الصفحات التي أقلبها بين يدي، وصوت أنفاسي. 
أذهب لألحظ الصغار قبيل موعد استيقاظهم، يتقلبون في وداعة، وكأن الحياة تعثر على طريقها إلى هذا البيت من خلال أجسادهم الصغيرة، ثم هي حركة جفن في نعاس وكسل… بابا؟ اسمع الكلمة تقال بثقل واستفهام. 
اداعب شعر رؤوسهم ، فتثاؤب ثم هم يمدون أطرافهم ويتضاحكون وتدب الحياة مرة أخرى في البيت، ويلبس كل منا ملابسه وأودعهم متوجها للعمل وكأني ترس صغير في عجلة الحياة التي تمضي بلا هوادة، في زحمة السير ومن بعدها اجتماعات وإيميلات، أنا أقرب للإنسانية في ساعات الفجر مني خلف الشاشة أثناء العمل، أستطيع أن اجزم بهذا. 

ثم يتبدل دورك فتصبح الموظف بعدما كنت الأب، السيد الآمر في بيتك. هذه الأدوار.. “أنصاف حياة” كما أسماها الكاتب في.إس نيبال تختلط عليك أحيانا، ولا تستطيع أن تعبر أحدها فتعزل حالتك تماما عما كنت عليه في الدور السابق، فتكون سعيدا مثلا حين تقبل على العمل، لأن بقية دور الأب لازالت متعلقة بك، أو تدخل البيت واجما لأن بقية دور الموظف لازالت عالقة بك. كثير منا يعتقد أن الحياة مشهد واحد، متصل بدايته ساعة الولادة ونهايته ساعة الاحتضار، لكنها عدة مشاهد مصغرة من نفس المشهد الكبير، عدة ساعات بعث يتخللها موت أصغر هنا وهناك، وكأنك تدخل حالة “تسخين” طوال عمرك للساعة الحقيقية، للساعة النهائية.  

ولا يعني أنك تلحظ الموت بأنك يائس من الدنيا وذو أفكار سوداوية، فأنت لا تقدر الدنيا ولا تراعي الوقت فتتفكر فيه وفي أي وجه تصرفه، ولا تعيش حياة جديرة بكل لحظة كما تفعل حين توقن بأن وقتك محدود، والموت نصف الوجود. 

FacebookTwitterGoogle+WhatsApp

أضف تعليقك

*

أهم التدوينات