soup-cooking
حساء معاد التسخين!

الصحفيون: ساراماغو، ساراماغو.. لم تكره اللقاء بنا؟ 

ساراماغو: لأن اللقاءات الصحفية كما الحساء الذي يعاد تسخينه مرة تلو الأخرى، نفس الأسئلة تطرح فأجيب بذات الأجوبة. 

 

يمر الوطن العربي اليوم بتحديات غريبة ما كانت لتأت في الحسبان، فمن حروب تنشب أو طائرة تسقط ومواجهات سياسية عالمية، كوارث طبيعية  ومدن تغرق، أو هزات اقتصادية، حتى الاختناقات المرورية. والمواطن العربي، في هذا كله ينتظر ويتضور جوعاً لما يسد به رمقه، لما يملء به جوفه من تصريح من المسؤولين يطمئنه بأن هناك من هو اعلم، وأقدر على التعاطي مع هذا كله. ويقدّم الحساء ساخنا في هيئة تصريح صريح، يتم تناوله بنوع من اللذة تأكله حواس المواطن قبل إدراك ماهو. نعم، صحيح أن مذاق هذا التصريح ليس بألذ ما تذوق طيلة حياته، لكن يشفع للمذاق سرعة التقديم لسد جوع المواطن. يحمد الله، يشكر المسؤول الذي قدم له هذا الحساء، يثني عليه، ويتذكر الحساء بنوع من الشوق، يتذكر نكهة المكونات ومقاديرها “ كيلو عجلة اقتصاد، أربع ملاعق أجندات الخارجية، ملعقة شاي مستقبل مشرق، ربع كيلو تحديات.. آه نعم ما ألذ التحديات، وقد يضيف من خياله ما لم يكن في الحساء أصلاً من مقادير. وبعدها، يتم حديث المواطن العربي مع مواطن عربي آخر عن الحساء، عن لونه الذي يداعب العين، عن رائحته الزكية ويتم النقاش حول طبيعة الحساء. المسؤول قال “و” ولم يقل “ف” وبالرغم من أنها كلها حروف عطف لكن الأولى تفيد المعية والثانية تفيد الترتيب. نعم عزيزي القاريء يتم تقليب الحساء الذي قُدّم إلى هذا الحد. 

وإذ بخطب آخر، تحدي جديد، يصيب المواطن ذات الجوع. يداعبه خياله بما سيقدم له هذه المرة، وجبة دسمة يسري الدفء معها إلى سائر عقله. يظهر المسؤول، وقبل أن يقدم أي شيء ينظر المواطن له بعين الأخ المشفق، يبدو متعبا وكأن طهي الطعام هذه المرة بلغ منه مبلغه لكن هو نفس التصريح! نفس الحساء أعيد تسخينه وأعيد تقديمه. يرتبك المواطن قليلاً، لكن يتناول بلذة أقل نفس الحساء. يبتسم، ويتفهم أن “الجود بالموجود” وقاتل الله شدة الخطوب التي تباغت المسؤول فلا يستطيع أن يشتري من السوق ما يقدمه، وإلا لشاهد المواطن العجب مما يطهى ويقلى ويشوى ولكانت مأدبة من التصاريح يتحدث عنها الجيل تلو الجيل، يعلم بها الغائب قبل الحاضر وتسري الركبان بأخبارها وعن حجم قدورها.   

ثم هو خطب آخر ذو طبيعة أخرى، لم يحدث قط أن واجهه الشعب، حتى في العصور السابقة. المواطن متأكد من أن الطبق سيكون تصريح يمثل وجبة لا تضاهى، لم يسمع بها لا في شرق أو غرب …لكنه حساء مرةً أخرى! يقدم المسؤول ذات الحساء- نفس التصريح- مرةً أخرى، بنفس الرتابة وبنفس المكونات ونفس المقادير. “ كيلو عجلة اقتصاد، أربع ملاعق أجندات الخارجية، ملعقة شاي مستقبل مشرق، ربع كيلو تحديات”  ويقدم المسؤول الحساء “التصريح” بكل فخامه وبكل ديباجة من عدم البخل بموجود وعدم الأسف على مفقود، والمواطن  ينظر لأخيه المواطن، هل اختلط عليه الأمر؟ الجوع قاتل، وعليه يتجرع الحساء لكنه لا يتأمل لونه، لا يلمس الوعاء الذي وضع به، لا يحس بثقل الملعقة، لا يتفكر في مذاقه يلتهمه بنوع من العتب، فلسان المواطن لا يكذبه حين يحس بغرفة ملعقة باردة، وأخرى فاترة، وثالثة تغلي لأن الحساء سخّن على عجل فلم تتوزع الحرارة كما ينبغي لها في التصريح عفواً في الحساء.  وهو في هذا كله ينظر للمسؤول حين يتشدق بأن هذا الطبق طهي لتوه ومتناسب مع الحدث وسيتبعه في المستقبل إن شاء الله أطباق ألذ وأشهى لكن المواطن العربي يتجرع الحساء وبه غصة، حين يستحضر ما يقدم من أطباق لمواطنين على ظهر هذه البسيطة بكلفة أقل وبمكونات أكثر تراعي ذائقة المواطنين والمسؤول يعتذر هناك قبل تقديم طبق شهي رائع بأنه سيقدم الأفضل في المرة القادمة. 

عزيزي المسؤول العربي، 

كتبت هذه التدوينة على عجل فاغفر لي، كتبتها لأني والله محب لك وللمواطن العربي الذي “انسدت نفسه” من نفس الحساء، لا تقدمه. استحلفك بالله ابحث جيداً في المطبخ، أو اجلب من يحسن الطبخ هذه المرة، أو اشتر وجبة من مطعم لكن أرجوك فالمواطن العربي قد نال من هذا الحساء كفايته وكفاية أولاده معه. لا تقدمه هذه المرة لأني أراه يغمض عينيه إن فعلت، لن ترفع يده الملعقة، سيطبق فمه، حتى إن أجبرته سيغص به وسيلفظه ولن يتحسر عليه وسيختار أن يموت جوعاً عوضاً عن هذا الحساء المعاد التسخين لعشرات السنين.   

    

FacebookTwitterGoogle+WhatsApp
  1. يزيد . نت

    2015/11/25 - 04:49 م

    اكثر من جميل و معبر و جعله الله يدل دربه و ينفع بما احتواه طهاتنا لأجل مستقبل أفضل يارب .
    شكرا لك للتعبير عني .

أضف تعليقك

*

أهم التدوينات