لغة الأرقام

من نحن

مقدمة في العام 1626 مات العالم فرانسيس بيكون وهو يحاول تجميد دجاجةرغبةً منه في التعرف على آثار تجمد الأنسجة واللحوم، وقيل أن هذه التجربة كان جزءاً من بحث عن سبب للتغلب على الموت إذ كان العلماءحينها ينظرون للموت على أنه عقبة لا نهاية طريق، ونهاية اختيارية لاحتمية. ولا يزال علماء الآثار، وعلوم الانسان يخرجون لنا بكشف عن جثث تجمدت أو حُفظت كما هي بالرغم من مضي آلاف السنين مثل أوتزي وهي أقدم جثة تم العثور عليها في أوروبا وتعود ل3300 قبل الميلاد، وفي كل عام تغازل هوليوود خيال المشاهدين، بأفلام تدور حول إمكانية حفظ الروح البشرية في الجسد الذي تسكنه عبر التجميد، وبعثها في زمان آخر. إعادة بناء جسد أوتزي وتصور هيئته بحسب جثته المتجمدة أما عن ردة فعلي تجاه هذا كله فهي ببساطة: #فكني_يا_شيخ والسبب؟ وجود المتجمدين في الخليج العربي بكثرة لا تدعو للاستغراب أو تثير الدهشة عند سماع أي خبر أو مشاهدة أي فلم. الجمود الذي أرمز له هو الجمود الذي يجعل صاحبه يعيش في فترة زمنية محددة ولا يقبل بأن يتعداها حتى يغدو غريباً عن الزمن الذي يعيشه المجتمع بأسره. إذ يحول الماضي كجدار زجاجي بينه وبين الحاضر ، يستطيع النظر من خلاله لكنه لا يستطيع أن يكون جزءاً مما وراءه. وهو في هذا يصبح منقطعا، فلا تصله حقيقة الأمور بل يفعل الضوء فيها فعلته فتبلغه صورها مكسورة، مبتورة، ومشوهة على غير ماهي عليه، وتأتيه دون فهم حقيقي لبواعثها إذ هو بمعزل عنها فلا يكاد يرى بوضوح أو يسمع ما يدور من حوار، ولا يعلم بما يحس به من يقطن وراء هذا الجدار العازل. عل هذا يفسر عزلتهم وعدم اكتراثهم بقضايا مجتمعاتهم مع مضي الوقت فتتضاءل مساحة المشاركة لتصبح اجتماعية موسمية، ويعيش هؤلاء الماضي، يجترونه ويتجرعونه، ربما يفسر هذا حجم حسرتهم فهم رأوا البدايات وعاصروها لذا فهم يدركون حجم الشوط الذي قطعه غيرهم، وأنهم بقوا على حالهم وفي أماكنهم. وفيه أيضا تعليل لتسميتهم كل أمر بما كان عليه في الماضي، ورفضهم لتسميته باسمه الحاضر كأن لا يقول الفرد منهم: حكومة بل يصر على لفظة “ربعنا” ولا ينقصهم أن يتذكروا مثالب الكل ففي انتقاص قدر من تجدد عزاء لمن تجمد، حتى لو كان هذا الانتقاص فرضاً أن جدة أحدهم قبل مئة عام نست أن ترجع ماعونا لجدة المتجمد السابعة عشر!! ولا يعني ذلك أنهم يسكنون الكهوف! فهؤلاء يأخذون من الحاضر أدواته ويكتفون بهذا القدر، فمثلاً هم يسافرون، فيشرقون ويغربون، ويلتقطون الصور وينشرونها على الانستغرام (عطهlike!) ويتلقون المعلومات ويتبادلونها على تويتر. على سبيل المثال هم يعلمون أن البيت الأبيض يقطنه رئيس أسمر اللون، لكن يستحيل أن يفهموا كيف يتم ذلك! بل يرون في هذا آية لقيام الساعة. ويعلمون أن هناك دولاً أوروبية أوكلت شؤون دفاعها لوزيرات، لكنهم يتندرون من هذا ويضحكون. وهنا يفرض ماضيهم حدود فهمهم وإدراكهم للحاضر، ببساطة هم لم يفهموا ولن يفهموا، وهنا تكمن مأساتهم. وكي لا نظلمهم فهم ضحايا ماضيهم، فهم كما قال أحدهم: ألهى بني تغلب عن كل مكرمة *** قصيدة قالها عمرو بن كلثوم أمثال هؤلاء اعتادوا أن يكونا صنّاع الحدث في حقبة ما، بل أن يكونوا هم الحدث نفسه! لكنهم غفلوا أن ما مكنهم في السابق لم يعد يمكنهم اليوم، إذ فقدوا الهمة على المضي وهم يحاولون أن ينتشلوا الماضي بأسره وبجميع معطياته فوق ظهورهم واللحاق بركب الزمن ومتطلباته في آن واحد، وهنا يكمن الفرق الجوهري بين هؤلاء ومن أراد أن يحتفظ بالتراث ويبقي على التقاليد. لأن من يهدف لإحياء التراث يحي بعضاً من التاريخ وأجزاءً منه يخضعها لفهم الحاضر، في حين أن هؤلاء يودون أن يحيون التاريخ جملة وتفصيلا ودفعة واحدة ككل، ولو أدى هذا لتأخر المجتمع وتعطل الحياة. حتى إذا عجزوا رضوا بالقعود وقنعوا بأن أسبابهم باقية وإن تغيرت المعطيات، وشروطهم ثابتة وإن تبدلت قواعد اللعبة. ثم هم يشكون أهل الزمان، وهل علموا بأن الزمان وأهله مضوا دون رجعة؟ وبعد ذلك تبدأ الحيرة، إذ تراهم يتساءلون مثلا لم ولي فلان هذا الأمر ولم يول أحدٌ منا؟ حتى وإن كان “الأمر” بالغ الأهمية، ومفرط الحساسية وله تبعاته على الوطن بأسره، والشعب برمته لكن هؤلاء يتعاطون مع الوطن من منظور أحادي يدور حولهم وفي فلكهم. أو تراهم يعجبون بأن كريماً في قومه، زار فلان بالإضافة لزيارة الكريم إياهم، لأن تواجد الكريم في مجالسهم هو ما يميزهم. ومن بعد الحيرة غضب ونقمة، فإذ بهم يرمون كل تغيير بالتزلف، وكل تجديد بالبدعة، وكل تطوير بالانسلاخ من القيم التي نشئوا عليها. وهل تنتهي المأساة عند هذا الحد؟ ليت الأمر كذلك، لكن المتجمدين لا يفطمون أبنائهم الماضي، حتى إذا بلغ أبناؤهم أشدهم وجدت متجمداً متحجراً في جسد شاب! هذا الفرد ينتظر من المجتمع أن يلوي عنقه ليكرمّه ويعطيه نظير جهد لم يقم به هو، بل قام به آباؤه وأجداده. هذا الشاب يريد أن يأخذ ولا يعطي، أن ينال ولا يجود، وأن يقـَدّم ولا يُقدِم فأي إنتاج تنتظر من فرد هكذا عقليته؟ وتزداد العزلة جيلاً بعد جيل، ويزيد الغضب تجاه الآخرين إما لأنهم تغيروا أو لأنهم كانوا من أسباب التغيير. على أن المتجمدين يمنون صغارهم وأنفسهم بأن الحاضر بمن فيه عارض من العوارض التي سرعان ما تنتهي، وأمر طارئ وحتما سينقضي، وعندها سيعود الحق لأصحابه! وليت شعري هل عاد التاريخ إلا ليلملم ما وقع منه أول مرة؟ والمتجمدون أمثال هؤلاء من جملة الأشياء التي يأخذها التاريخ، فتُدرس ولا يدرسها أحد. في الأخير وبالمختصر: تجدد أو تجمد..

FacebookTwitterGoogle+WhatsApp
  1. نوال

    2015/01/03 - 06:49 م

    السلام عليكم،

    قد أقيس حياتي اليومية بالأعمال التي أقوم بها خلال يومي، وتلك الأعمال تدريجيا ستكون في غضون فترة معينة (تختلف باختلاف نوع العمل) إنجازا، وبالتأكيد مع كل إنجاز أحمل أمل أن تكون قيمته كبيرة وإن لم أقدرها بالأرقام، فكثير من الإنجازات العظيمة لا تقدر بالأرقام…
    أعطيك مثالا: عندما أربي طفلتي على عادة حسنة أكررها أو نكررها معا يوميا، مستقبلا وبإذن الله ستكون سلوكا جميلا فيها وإنجازا بالنسبة إليّ…

    إن عددنا بالأرقام هنا، ربما أتينا على تعداد كم من مرة قامت بذاك السلوك الحسن في حياتها. حتى يكون هذا جوابا على سؤالك فلا يخرج تعليقي عن الموضوع :)

  2. Raed

    2015/01/05 - 04:24 م

    أصبت لكن حتى ما لا يقاس، نستطيع حصره كما تفضلت بالمثال. وبارك الله لك في ابنتك وبلغك فيها على ما نقول :)

أضف تعليقك

*

أهم التدوينات