قد تكون مستلق في فراشك يسامرك الأرق، أو تكون مترقباً لموعد ما، أو منتظرا أحدهم، قد ينتابك السأم، وهذا ما أريدك أن تراعيه وتنتبه له – تقوم بعملية هروب من هذا الملل لا شعوريا فتقوم بالبحث في هاتفك الذكي، تظهر لك أيقونة صغيرة على شكل كاميرا من بين الايقونات. تضغطها بأناملك فينبجس لك عالم تتدفق صوره، وينفتح لك عالم مليء بالألوان والصور، منها الثابت، وآخر المتحرك، وكثير من ال”لايكات” والكلمات. فجأة يتبدد الملل، وينحسر السأم وفي برهة تصبح مشدوهًا بكل هذه المناظر والصور، مأخوذًا بما تحويه من تفاصيل ودقائق. وفيما يلي عرض لبعض هذه الصور التي تمر بها:
الصورة الأولى: “عووش مكانج بين“
صور لمأكولات شهية. علها وليمة عظيمة لو نظر إليها أصحاب المخيمات، أو اهل المجاعات لماتوا كمداً أو وجبة خفيفة اعدت بكل ظرف وعناية حتى يخيل لك أن صانعها مهندس، رسام أو نحات. تنهال الردود على التعليق الأصلي لصاحبة الصورة “حياكم..” فمنها الرومانسي “كلي وأنا أشبع” ومنها الذي يطفح أدباً ولطفاً “جعل فيه العافية” ومنها ما يغلب عليه الطابع الديني “اللهم اسبغ على ميمي نعمك، ولا تنسها شكرك”
ميمي ترد بكل ظرف على الجميع، ثم تذكر إحداهن ” عووش..حبيبتي مكانج مبين”
من عووش؟ وما الذي ذكر ميمي بعووش؟ شاي الكرك؟ أم الكعك؟ أم هي الزخرفات على السماط؟ لا أحد يدري، سوى أن شهيتك تنفتح وتقول في نفسك “يبي له: تشوكوليت ويذ فانيلا آيس كريم أند أناناس”
الصورة ثانية: فتى البراري، والقفار.
عندما تنظر لهذا الأخ فإن ألبوما غنائياً من الشعبيات التي تسجل بسرعة يمر بذهنك، الشاب المعمم يفيض بداوة، طير في الزاوية في النهار نهار، أو تشاهد صورة لجبل من الفقع تكاد تنظر من خلاله لأسنانه الصفر يضحك بكل عفوية، لكنه –سبحان الله سبحان الله-ينظر للعدسة. أما في المساء ففتى البراري والقفار لا يفوته أن يلتقط صورة للنار توقد في البعيد مع دلال القهوة.
أبيات شعر في الكرم والجود وأبيات يبث فيها لواعجه والغربة والبعد عن الاهل…! أو -وهذه أعجوبة من أعاجيب الزمن-أن يتحدث عن نفسه بصيغة الهمجي إنسان الكهوف.. “فلان بن فلان مع الضو، وسوالف طيبة” فلان بن فلان هو صاحب الصورة وصاحب التعليق وصاحب الحساب في الإنستغرام. لم لا يستخدم كلمة “أنا؟”
رائد بن إبراهيم العمادي لا يدري..!
صورة ثالثة: بنت أبوها.
تأتي بعدها صورة بنت أبوها (بنت أبوها لا تظهر في الصورة عيب.. عيـــب كل ما يظهر هو خنصرها الذي يشبه في غلظته رقبة خباز الحي) تلك التي تملك من كل شنطة أربعة ألوان –كيفها ياخي كيفها- تملك الساعات المرمية في لا مبالاة هناك في ركن لا ينتبه له أحد سوى عدسة الكاميرا سبحان الله! الصورة تصرخ: شوفوا بنت العز، شوفوا دلع البنت.
ثم تكتب تعليق مثل “النقود لا تجني السعادة” اللهم قوي إيمانك!! تود أن تقبض على خنصرها، وبالهاتف الذكي يستحب أن يكون جالكسي موديل “الطابوقة”، تكسره على رأسها!
صورة رابعة*: لا تلوح للمسافر.. المسافر راح.
الرحالة ابن جبير، ابن بطوطة المشرق والمغرب، الذي يصور باحترافية عالية، ومن زوايا لم تخطر ببالك مثال: برج إيفل في فرنسا يصوره من إيطاليا وهو على برج بيزا المائل، أو يصور علبة تونة من فم قط جائع. وهؤلاء “لايكاتهم” ألوف مؤلفة، وقد يتلذذون بما يترامى إليهم من مديح، هم يرفضون لفظة الاحتراف، هم مجرد هواة لأنك إن ألحقتهم بركب الاحترافية لتعثروا ولم يلحقوا بالمصورين العالميين. بالنسبة لهم الصورة ليست لقطة لحياة، بل هندسة تعتمد على كمية الضوء، والزوايا والقياسات هؤلاء كمن يعني بوزن الشعر ولا يعتني بروحه. هؤلاء أفسدوا الإنستغرام وسلبوه بساطته وعفويته التي تلاحظها في الصور التي تميز بعض الحسابات عن غيرها.
الصورة خامسة: المفهيين بفضل الله.
هؤلاء لا تدري حقيقة ميولهم، ولا ما يستهويهم أو يرضي ذائقتهم. هم لا زالوا يبحثون عن نفسهم بحث من فقد مفاتيح سيارته؛ حتى يجعلون من يتابعهم يصاب بحيرة، وضياع وشتات.
صورة طفل؛ صورة قدر وأواني مطبخ، صورة وردة، صورة أبيض وأسود لممثل راحل، صورة كتاب..
أشياء مبعثرة لا ترابط بينها، حتى تحدثك نفسها: يمكن ناسي أو ناسية الكاميرا شغالة؟
ثم تأتيك الصاعقة حين ترى صورة لكلمات كتبها! ياخي هل تتعاطى المخدرات؟ أم أنك لم تفهم القصد من الإنستغرام بعد؟ المصيبة الأعظم هو تفاعل بقية المتابعين المفهيين! والذين أحسب الإنستغرام كان لهم مأوى وملجأ بعد ضياع الإقبال على المنتديات. فقل: ها خيبة يضيع العمر في سردها!
وصور أخرى كثيرة. أكثر من أن تعد أو تحصى، تمعن النظر فيها وتتفاعل معها كل هذا وأنت تشعر بالملل، قد يتسرب القياس لنفسك: لم لست أنا من ضمن هؤلاء السعداء؟
عندها تذكر شيئاً واحداً هو أن قاسما واحدا يربط بين هذه الصور وهو أنك لا تشاهد الصورة الأكبر! لو كان مدى رؤيتك أكبر لاستطعت أن ترى أن ميمي تطلب الطعام من مطعم ولا تعده، أو عل السفرة وحدها الأنيقة في غرفة موحشة أمت عووش فسؤالها عنها لمجرد اغاظتها. عل فتى البراري والقفار، يعيش عقدة نقص، أو يبحث عن وسيلة يتقدم بها ويتميز عن بقية الرجال وعله وجدها في الفقع الذي اشتراه ثم تصور بجانبه. لو حطمت الإطار لرأيت بنت أبوها وحيدة، لأنها فضلت أن ترافق الذهب والجواهر والألماس على الناس. أما المسافر فهذا حبيس موهبة تميزه عن الهواة ولا تضفي عليه شيئاً أمام المحترفين. والمفهي عايش لحظته سعيد بما يشرب ويأكل الآن، لا يتحسر على ماضي، ولا يأبه لمستقبل ولا يدري “وين الله قاطه!”
هم يقيدون حادثة، ولا يحتفظون بذكرى في قلوبهم، يسجلون لحظة ولا يبقون عليها في صدورهم. وصدقني قد أثبتت الدراسات أن النسبة أقل من ضئيلة لأولئك الذين يعاودن مشاهدة صور التقطوها. هم بما يعرضون من صور ثابتة أو متحركة يظهرون جزء من كل، لحظة من يوم، ثوان معدودة من حياة طويلة تتخللها الآلام والأسقام هم بشر مثلك، فلا تحسدهم على ما يبدو منهم.
انظر لأبعد من صورة مربعة، وادم النظر حولك لفترة أطول من نصف دقيقة.. أنت سعيد كالسعادة التي يقيدونها، فلا تقيد نفسك.
*رابعة: رقم متسلسل، يليه خامسة، ويسبقه ثلاثة..لا علاقة لهه بأي تنظيم سياسي. لحد يسحب سفيره.
dots ..
2014/03/22 - 07:29 م
في آي خانه انت؟ واتساءل في أي خانه انا