أن تكون أباً لطفل هو أن تكون مسؤولا عنه في طفولته، ومسؤولاً تجاهه في شبابه.
===
الحياة لا تمهلك متى ما علمت أنك ستكون أباً. فجأة أنت أب عليك أن تتخذ قرارات أبدًا ودائما. تختار اسمه، ملبسه، مطعمه، ألعابه، الوقت الذي يمضيه أمام التلفاز، ما يشاهد؟ تذهب به إلى المستشفى أم تداويه في البيت؟ تصدق استشارة هذا الطبيب أم تذهب به لآخر؟ قرارات تتفاوت في أهميتها، بعضها له نتائج فورية كأن تعلمه اسم شيء ما ليقول هذا أمام غريب فتزهو بذكاء ابنك المتقد، وبعضها لن تعلم فائدته حتى تودع قبرك فيقال لك “هذا دعاء ولدك لك” وفي كل نقطة هناك خيارات لا تعد ولا تحصى. ستصيب أحياناً وسيجانبك الصواب أحياناً أخرى، لا تقلق يبدو الأمر مخيفًا. ما يهون عليك هذه القرارات هو أنك لا تتخذها بمعزل، هناك شريك حياتك، هناك الأهل والأصحاب، وحتى عهد قريب الحكومة الموقرة.
ماذا؟ الحكومة.. نعم يا ولد يا شيوعي؟ يا يساري، يا عدو الله. على رسلك. نعم الحكومة أليست تقدم الرعاية الصحية، والتطعيم، والتعليم.
آه يا التعليم. أتكلم؟ طيب أتكلم.
حتى عهد قريب كان تعليم الأبناء موحداً، مناهج موحدة وطاقات تعليم متفاوتة تعتمد على تقييم دوري من جهة موحدة. كان هناك حد أدنى من التوقعات، لم يكن التعليم OMG لكن كشخص ذهب للولايات المتحدة الأمريكية أستطيع أن أقول أننا كنا متفوقين في المواد العلمية والرياضيات تفوقا ملحوظا، كانت الإنجليزية تنقصنا بجانب بعض المهارات التي كان ينبغي التركيز عليها كالإلقاء، وروح العمل الجماعي في الميدان الدراسي. لم يشك والدي ذات يوم أنني قد اتعثر أو اتأخر عن أقراني، كان يثق في ورقة خضراء مكتوبة، ثم أصبحت ورقة بيضاء مطبوعة تسمى شهادة اختبارات. لم يظن أن أبناء عمي يتلقون شيئاً لا اتلقاه، لم يتحسر أو يبادر بالسؤال عن أحسن مدرسة، الخاصية الوحيدة التي كانت موضع البحث هي المسافة من المدرسة للبيت، ووجود أبناء عم أو أقارب فقط.
ما الذي تغير؟
كل شيء.. تم تطبيق استراتيجية #تبي_تحيره؟_خيّره! أصبح هناك مدارس ذات خيارات لا نهاية لها منذ فترة الحضانة، مناهج مختلفة، طاقم تدريس من شتى أصقاع الأرض ذوي ألسنة مختلفة وديانات وهويات لا تستطيع حصرها، وعليك أن تختار. هذه الحضانة تنمي الانضباط وتلك تنمي المهارات الحسابية. عليك ألا تنسى المنهج، هل تريد ابتعاث أبنائك لبريطانيا، الولايات المتحدة أو جامعة قطر؟ لأن هذا سيحدد النظام الذي سيتبعه فلذات كبدك لسنين عديدة، هل هو النظام البريطاني؟ أم الأمريكي؟ أم الإسباني؟ أصبح القرار قرارك وحدك الآن، أنت مسؤول عن جودة تعليم أطفالك، يتم صرف قسائم لك ولك الحرية الكاملة لكن يلاصق هذه الحرية مسؤولية تتحملها أنت ويعيشها هم. لا يهم ألا تملك المؤهلات التي تعينك على اتخاذ قرار هام كهذا، لا يهم أن تضيع سنوات في نقل ولدك من مدرسة إلى أخرى لأن هذه المدرسة ترهق الطفل بالواجبات المنزلية أو من نظام لآخر لأن الموضة النظام الموزمبيقي مثلاً لأن خريجي الموزمبيق خوش أوادم. لديك الحرية الكاملة وأنت مسؤول عن أطفالك وبعدها مسؤول من قِبَلِهِم، وعلى كاهلك فقط تقع أعباء المسؤولية تتحمل ألا يحصلوا على الحد المناسب، أو المستوى المطلوب، لأنك لم تسع لقبولهم في المدرسة الفلانية ذات النظام الفلاني، والتي أدت لتخرجهم بمهارات وبمستوى يتطلبه سوق العمل.
باب الحيرة، فصل الشك (وفيه يتحدث مربي الطفل إلى مربي طفل ذو خبرة في مكان عام)
أولاً دعني أرحب بك رسمياً في النادي: Welcome to the club baby!
سألته بكل حماس: عفواً، ما هي أحسن مدرسة؟
يضحك عالياً، تسقط منه أوانيه الفضية. ثم توقف عن الضحك لأنه يريد مواصلة أكله، لا لأنه تعاطف معي، سألني:
هل تمتلك كمبيوتر؟
وما شأن هذا بسؤالي؟
احلم علي، واجبني عن سؤالي.
قلت: نعم، امتلك واحداً.
فقال: “وهل سألتهم حينها بأنك تريد أحسن كمبيوتر؟ أنت أردت كمبيوتراً محددًا يناسب احتياجاتك، وكذا هي مدارس هذا الزمن يا صديقي. لا وجود للأحسن، عليك أن تحدد أولوياتك كأب وتبحث عن أنسب هذه المدارس وأكثرها ملائمةً لأولوياتك. مثلاً، أنا على علم أن مدرسة أبنائي(وذكر من المصائب في المدرسة ما أفقدني شهيتي) لكن أردت مدرسة فيها (هل قطر) كي تنشأ علاقاتهم بمن هو في سنهم وكي لا ينشؤوا غرباء عن مجتمعهم.” أخذ يمضغ طعامه في تلذذ تام “ليس الآمر بذلك السوء يا عزيزي.. كل كل..”
قلت في يأس: ماذا لو فحصت المدارس كلها؟
ستفوت فرصة الالتحاق بالفصل الدراسي، والفصل يتغير من نظام لآخر. ولن تزيد على نفسك شيئاً سوى الحيرة والقلق من أنك لم تصب في اختيار المدرسة المناسبة عند وقوع أي مشكلة. ستفتح أبوابًا للشيطان بعدد الخيارات التي كانت متاحةً أمامك. ستفكر، يمكن لو الحقتهم بالمدرسة الفلانية التي زرتها كان أجدى وأنفع؟ يمكن..حتى لو كانت المدرسة بعيدة ومع زحمة السير الناجمة عن بيت التقويم القطري، لأنه طالع نحس، في موسم الزحمة، يمكن أحسن؟
سرحت، عدت بنفسي إلى زمن دراستي: والدي مر بمرحلة اختيار ذو معطيات محددة، وأنا أمر بمرحلة انتقاء أشبه ما يكون بالعشوائي، نظراً للخيارات وآلاف المتغيرات. حين قل تحصيلي العلمي، لم يحس والدي بالذنب لأنه أخطأ في اختيار المدرسة، لأنه وثق في الوزارة حينها بأن تكفل له هذا القدر من راحة البال، وعلم أن التقصير مني. والدي كان يتعاطى مع تعليمي على أنه عملية مشتركة بينه وبين جهة حكومية. أما أنا، فمن لي سوى نفسي ألومها إن لم أحسن الاختيار أو الانتقاء لولدي وابنتي؟ انتبه لنداء صديقي: رائد..رائد
هلا؟
شبلاك يالظيب؟ (ما الذي دهاك أيها السعلب؟)
===
جانب آخر بات جليًا لتطبيق استراتيجية #تبي_تحيره؟_خيّره! انعدام التجربة المشتركة، ما الذي أعنيه؟ جيل النشامى والأجاويد يذكر تمامًا تسمرنا أمام التلفاز عند هطول الأمطار لأننا نود معرفة ما إذا تعطلت المدارس بسبب أمطار الخير؟ هذه تجربة جماعية واجتماعية لها علاقة بالتعليم. “وصلتوا أي فصل؟” كان من ضمن الأسئلة التي تطرح قبيل الامتحانات، لأن الامتحانات كانت موحدة وهناك تجربة جماعية تتمثل في تذمر الآباء جميعًا من صعوبة امتحان ما، أو تقديرهم لولد الفريج الذي استطاع تحقيق نسبة عالية قياساً بكل أحد مرحلته بالدولة. هذه الظواهر الاجتماعية آخذة في التلاشي بسبب تشعب التجارب التي تنجم عن تنوع الخيارات المتاحة أمام الآباء، فينشأ كل طالب على حدة، وكل عائلة تمر بتجربة مختلفة. ما الذي ينشأ عن هذا كله؟ تجمعات بشرية قائمة على تجارب فردية، مقابل مجتمعات يربط أفرادها تجارب مشتركة وحينها لن تزيد محاولاتنا لتأصيل الهوية عن طلاء السطح ومعالجة القشور.
كلمة أخيرة:
إلى مجلس التعليم الجديد، وفقكم الله
قديما أردت القضاء، لكن وجلت من أن قاضيًا في الجنة، واثنان في النار.
وحديثًا أردت التعليم، لكن عدلت.. لأن الغلطة بجيل.. فالله الله في أحفادنا، وأحفادكم.
خ. السليطي
2014/02/25 - 07:32 م
أبدعت أخي رائد في تصوير معاناة الشعب القطري مع المدارس. بارك الله في أحرفك المعبرة.
لينة
2014/03/20 - 01:58 م
فعلا الموقع دة متميز للغاية ، وأرغب في المزيد والمزيد من الموضوعات المهمة
مشكورين على المجهود المتميز ، واتمنى لكم المزيد من التقدم والتألق بأذن الله