صور ذهنية

حدث أن حجزت في فندق ذات يوم لأن ابنتي منيرة، وقد كان عمرها عامين حينها، أرادت “ببح!” أي السباحة. ففعلت، وتجهزت بحماس بالغ، عل هذ الاندفاع هو إحدى وصمات الرجل متى ما كان حديث عهد بالأبوة. اشتريت كل ما يلزم، سبّاحة صغيرة تلائمها، واقي للشمس للأطفال، “تبس: تشبس” حتى انستني التفاصيل ما أصبو إليه. فعلت كل هذا وأنا جذل من فرط السعادة ولم يبخل علي خيالي برؤيتي معها نسبح سوية، بل أغوص لأخرج فجأةً فتضحك في براءة وسعادة. نعم! وفي هذا كله سوف أحاول نزع السباحة من يديها لتبدأ تعلم السباحة منذ الصغر، فتفعل في خوف بادئ الأمر ثم لا تلبث حتى تسبح وحدها وأشجعها بكلمات مثل “شاطرة بنيتي” وغيرها من عبارات الفخر والمدح. أحسست أني سأفوز بجائزة الأب المثالي ويتم تكريمي عالمياً!

وصلنا الفندق، استقرينا في الغرفة، فقلت بفارغ من الصبر: هيا لنذهب! فحثتني والدتها على الصبر، لأن منيرة لم تأكل بعد. اقتنعت وأنا انظر للمسبح من بعيد، وأرى أطفالاً صغاراً يلعبون فشملتهم الصورة الذهنية، ومنيرة تلعب معهم بكل فرح. نزلنا سويةً بصحبة والدتها التي قررت أن تشاهد وتصور ابنتها في هذه اللقطات التي أقنعتها بها، كانت تسألني منيرة: بابا إينه ماي؟ وأنا أضحك قائلاً: عما قليل يا منيرة..عما قليل يا صغيرتي. حتى وصلنا، فوقفنا نختار مكاناً نحط به رحالنا، ثم وقفنا على حافة حوض السباحة أحسست بيدها الصغيرة تترك يدي، ورأيتها تجذب والدتها.

“بابا ما تبين”

“ليش يا منيرة؟ هذا الماي؟ دقيقة..” رأيت أن خير مثال هو أن أكون قدوة لها. نزلت في الماء، لشدة ما كان بارداً..لكن سرعان ما تأقلمت عليه، لا بأس ستحس مثلي أول الأمر ثم تلعب في الماء بكل فرح. وفجأة وإذ بطفل أحسبه من بعض الجمهوريات القريبة -علها المكسيك -يقفز في الحوض وهو يصرخ: شوفني يا سعد! شوفني.

أصابني بالماء في وجهي تمتمت “ألا تباً لك، ولسعد فوقك.” حتى إذا جاء سعد، واختفت الشمس وراء جسده فقفز ولا أدري هل رأت منيرة ذعر والدها حين طار هذا المخلوق الذي يبلغ طوله متر ووزنه على أقرب تقدير ٤.٦٧ طن؟ كل ما أذكر أن منيرة ذعرت وأخذت تصرخ: “ما تبين ما تبين..”

خرجت مبللاً، جثوت على ركبتي. يا بابا صدقيني “سعد شكله نباتي، ياكل بطاطس، نوتيلا وهامبرغر بس.” والمسمى سعد يصرخ في ضحك لمن معه “شوفني أغرق أغرق..” همست: سحقاً! لا أخفيكم كنت أفكر في كيفية إغراق سعد، لكن وبعد سنوات في الهندسة والرياضيات تبين لي عبر عملية حسابية سريعة أني احتاج لمكينة سيارة (سعة أربعة سلندر) لتثبيت سعد في أسفل الحوض.

“رائد، دع البنت وشأنها. خلاص هي غير مستعدة الآن، وستكون ذات يوم” قالت لي والدتها وهي تحضنها وتهدأ من روعها.

“أغرق.. أغرق” يصرخ هذا الشيء في الحوض وهو يضحك، بل لا أبالغ حين أقول أن ضحكه كان يرسل بموج في ثنايا المسبح وزواياه. يمكن هذا ما حدثنا عنه أهل الغوص قديما؟ يمكن هذا هو بودرياه؟

“لكن؟ لكن دعينا نجرب حظنا مع مسبح الأطفال هناك” تلعثمت وقلت على عجل لم أفقد الأمل، باتت محاولة أخيرة ذهابنا لحوض الأطفال. مشيت بخطىً ثقيلة، لا تعوزني الهمة ولا يثنيني ثقل الماء إلى داخل حوض الأطفال حتى بلغت أوسطه إذ يبلغ الماء إلى ركبتي “ها يا منيرة؟” ابتسمت راجياً إياها ألا تحطم هذه الذكرى التي أود أن أحفظها في شيخوختي إن مد الله بعمري. تردَدَت، أرادت أن تقبل وإذ بالماء من حولي يضطرب، بدأت أشعر بهزة وأخذت تشتد عنفاً فقلت لنفسي: “زلزال؟ لا.. واليوم الأربعاء ويوم القيامة يصادف يوم الجمعة!” وإذ بسعد يركض ويتمايل شحمه في كل اتجاه ويتشكل جسده بسرعة فائقة: مربع، مسدس، خماسي، مستطيل.. مدور، مكعب، متوازي أضلاع وهو فاغر فاهه يتدلى منه لسانه ويسيل لعابه على ذقنه، وصراخ من حوله ومن خلفه وفي يده طفل صغير.  أردت أن اتشهد لأني أيقنت أن جسدي سيتحطم أمام ارتطامي بخده الأيسر. لكن سعد توقف فجأة، عند حافة الحوض كأدق ما أنت ناظر إليه من السيارات الألمانية بخاصية مكابح الABS  بالرغم من أن شحمه لم يتوقف عن الارتجاج.

تباً سيأكله! سمعت الدعاة يحذرون من الذئب البشري، لكن لا احسبهم مروا بهذا المخلوق “الدب البشري” هذا ما حدثني به عقلي، مددت ذراعي، نحوه هممت بأن أقول: بطلب لك أكل لكن لا تأكل الصغير.

وعندها أخذ الصراخ يتحول من جمل مبهمة إلى عبارات مفهومة. كان مصدر الصراخ سيدة مكسيكية تصدح بصوتها: “نزّل أخوك يا سعد، نزله يا سعد بسرعة.” وإذ بسعد يضع الطفل حتى بطنه في الحوض وهو ممسكٌ به من ذراعيه. التفت إلى صغيرتي، أحاول الابتسام في وجهها دون أن يبدو القلق واضحاً وأحاول فهم الظاهرة البشرية الواقفة أمامي. ثم أن سعد سأل الطفل الصغير: “ها خلاص؟”

هناك لحظات تمر بعقلك، يرفض فيها أن يجري أي عملية حسابية، يرفض أن يكون أي شيء سوى وعاء يربط بين طرفي أذنيك من الداخل.

 لحظة.. مخي يسألني: شالسالفة؟

رددت: من فينا المخ، أنا ولا أنت؟

حتى سمعت الصغير وهو يضحك بارتياح: إيه خلاس!

عندها صرخ مخي في: “ما تبين ما تبين” ركضت خارج المسبح، ويقال إني ولسرعتي مشيت على الماء! الله يقرفك يا سعد أنت وأخوك على المكسيك فوقكم. حملت منيرة فوق كتفي، وهي تضحك، ووالدتها لا تكاد تصدق ما عاينت، لكنها أخذت تلتقط لنا بعض الصور. رجعنا إلى الغرفة كان هناك حوض استحمام صغير ملأناه بالماء وأخذت تسبح منيرة بداخله، وترش الماء في كل اتجاه بكل فرح وشاركتها وأنا مسرور بضحكها الذي لا يقل قدراً عن تلك الصورة الذهنية التي تشكلت في مخيلتي بدون ذعر منيرة، ولا حجم سعد، ولا أم سعد…يخرب بيتك يا سعد!   

لكنها نامت سعيدة، علها نست سعد وبت ليلتي أحلم بكوابيس يأكلني فيها سعد ويضحك فيها الصغير وتصرخ أم سعد فيه: أكله يا سعد! أكله بسرعة..

 

خاتمة:

جميعنا يحمل صوراً ذهنية، صور لأفراد عائلتك، لأصدقائك، لزملاء عملك، حتى لوطنك!  يقومون في هذه الصور الذهنية بما توده أنت وتتوقعه منهم. لكن قد يكون الواقع مغايراً لذلك، قد تتحطم تلك الصور أمام ردود أفعالهم، وعدم رغبتهم في أن يكونوا جزءً مما رسمت في مخيلتك.

هناك ثلاثة أمور علمتني إياها منيرة في ذلك اليوم:

الأمر الأول: هو ما صاغه كريستينسون في كتابه “كيف ستقيس حياتك؟” وما رمت إليه والدة منيرة بالفطرة وبحنان الأم من أن الأطفال سيتعلمون حين يكونون مستعدين لذلك، لا حين نكون نحن مستعدين لتعليمهم. دليل ذلك أن ابنتي طلبت مني بعدها “ببح” ففعلت الشيء ذاته دون أي حماسة أو أي اندفاع، أو ارغام مني لأجدها تسبح في البحر بكل سعادة وثقة. بل كنت أرجوها أن نخرج من البحر فتقول: ما تبين!

الأمر الثاني: أن هذه الصور الذهنية تكون أيسر لمتخيلها، وأكبر حظاً في التشكل على أرض الواقع متى ما شاركناها أصحابها. كأن تعلم الشعوب ما يريد منها قادتها؟ وأن يعلم القادة ما تريد الشعوب منهم؟ لا أن يبقى الأمر محصوراً في التخمين، ومبدأ: الشيوخ أبخص.

الأمر الثالث: أن الرحلة مهمة بجانب الوجهة. بقدر ما أردت أن أحفظ شيئاً محدداً وهو النتيجة أي ضحك ابنتي، لكن وجدتني أحفظ التفاصيل وما واجهناه من مصاعب ومتاعب، وهي ذكريات لا تقل سعادةً عن النتيجة التي حصلت عليها بطريقة أخرى. 

الأمر الرابع وعله الأهم: تجنب السباحة في أي حوض تسمع بداخله اسم “سعد” 

FacebookTwitterGoogle+WhatsApp
  1. إبراهيم

    2014/02/04 - 06:12 م

    أشكرك على المقال المميز والمضحك :)

    فعلا كثير من الاحيان نرسم صورة معينه في عقولنا اثناء الرحله ونعمل على ان تكون هذه الصورة هي الصورة التي نريد ان نراها ولهذا لن يحدث ابدا

    الاحظ ذلك عند محاولة وصف تجربة عشتها مثلا زيارة دبي اتحدث عن الميترو او النظام او السياحة الاسواق وغيرها عندما يعود يقول لي انت تبالغ لماذا هل لم تجد شي من ماذكرت يقول لا لكن انا تخيلت شي ثاني

    دائما لن تنطبق الصورة الذهبية مع الواقع :) علينا تقبل الامر بهذا الشكل

    والله كرهتني في اسم سعد هههههههه

    تحياتي

أضف تعليقك

*

أهم التدوينات