spiderman،الـهنـدي، والطبـيـب..

المجانين ليسوا بذاكم الجنون، إن قبل المرء منطقهم.”

غابريل غارسيا ماركيز

كثيراً ما استهوتني روايات وقصص تتحدث عن سهولة فقد الإنسان العاقل لعقله كرواية “الراهب الأسود” لأنطوان تشيخوف أو “لقد أتيت فقط لاستخدام الهاتف” لغابريل غارسيا ماركيز. وقد كنت أعارض فيما قبل القول الذاهب بأن يفقد الإنسان عقله دفعةً واحدة حتى جرت أحداث هذه التدوينة.

===

الفصل الأول: الليلة الكبيرة: وفيها تحدث الفاجعة

التوقيت: ما بعد منتصف الليل.

حدث في ليلة من ليالي الله أن أردت ممارسة الرياضة مدفوعاً بالإحساس بالذنب مما “طفحت”، فقلت لنفسي ولم لا اركض في مضمار سباق النادي الموجود في قلب الحي؟ نعم، لم لا؟  فالجو بديع، والعملية لا تكلف سوى الإصرار والعزيمة.

فقالت نفسي: بسم الله الرحمن الرحيم! روح نام الحين وعين من الله خير.

فأبيت، وامتنعت وقلت لها: بتروحين غصبا عنج ولا أوديج بيت الطاعة.

فقالت: حسبي الله عليك… حسبي الله عليك. يا ولد (ادخل اسم أم الكاتب) وهي تأن كأنها الممثلة حياة الفهد حين تسمع بخبر زواج أب أولادها بأخرى تصغرها في مسلسل رمضاني.

ذهبت، وركضت قدرا لا بأس به، حتى أرهقت نفسي بالركض وقد جاوزت الساعة واحدة والنصف فجراً. الغريب في الأمر أني لم أكن وحيداً، أي أنه كان هناك نفرٌ من الناس يمشون ويركضون “كلهم يحسون بالذنب مثلي؟ كلهم طفحوا مثلي؟” هذا ما دار في ذهني. أحسب أن شعور المرء بالمصيبة يخف بقدر المصابين بها. وفي اليوم التالي، وبدون مقدمات، أثناء تواجدي في الشارع أصابني ألم في قدمي اليسرى-أجلكم الله -أخذت أعرج، وازداد الأمر سوءً حتى عجزت عن مواصلة المشي. بدت لي المسافة إلى مكتبي لا متناهية. أخذت ابحث في الجدار بجانبي عما اتكئ عليه، ورحت أمشي على هذا الحال معتمداً على الجدار بيدي بكل بطء حتى خشيت أن يمر بي طفل فيصرخ: Spiderman متقاعد Spiderman متقاعد!  “الصحة تخون، ولا تدوم” هكذا تقول جدتي – حفظها الله -دائماً، تذكرت قول امرؤ القيس:

فلو أنها نفسٌ تموتُ جميعة *** وَلَكِنّهَا نَفْسٌ تَسَاقَطُ أنْفُسَا

الفصل الثاني: التشخيص العظيم: وفيه يكتشف البطل أموراً لم يعرفها عن نفسه ذات يوم.

بلغت المكتب، وبت في حيرة من أمري، ذلك لأني كنت مسافراً في اليوم التالي، ففي الأمر مشقة ولا أدري إلى أي مدى يبلغ تحملي مع هذا الألم الذي يحد من حركتي ويقيد خطوتي. لذا نويت، وجمعت أمري أن أذهب إلى قسم الطوارئ بمستشفىً حكومي، حتى إذا بلغته بشق الأنفس. جلست، وانتظرت.. ثم “خست” ثم دخلت بعرجتي بعد طول انتظار على الطبيب المناوب تتبعني وتسبقني عيون الحسد والحقد من بقية الجلوس في غرفة الانتظار. وقد بدا الطبيب لي شاباً، عله كان أصغر مني سناً. ألقى عليّ التحية وسألني بكل رتابة والممرض يقف فوق رأسي: ما المشكلة؟

فقلت: ألم بقدمي أجلك الله.

“هل وقع شيء على قدمك؟” يبدو الملل واضحاً في نبرته، وما شأني إن كان يتوقع من مهنته من الحماس وإنقاذ الأرواح ما لا يلقاه في رجل ثلاثيني يشكو ألماً في قدمه!

قلت: لا..، لكني زاولت الرياضة في ليلة الأمس.

“قبل كم ساعة تحديداً؟” في هذه الأثناء كان يشخبط في الملف، أحلف بالله إنها خربشات يهرب بها الطبيب من الملل، وليذهب أحدكم إلى ما بعد الشمس إن أراد أن يقنعني بغير ذلك!

“انتهيت في الساعة الثانية فجراً.”

هنا وقع القلم من يده ونظر إلي: عفواً؟

ما الخطب؟

في أي ساعة زاولت الرياضة؟

بعد منتصف الليل. أجبت بحماس واضح. انتظرت منه أن يدق جرساً ما ويجري تكريمي من قبل طاقم المستشفى كشخصية العام الرياضية، لكن شيئاً من هذا لم يحدث. تبادل النظر مع الممرض، ثم نظر إلي وعيناه تلمعان كأنما بُثت فيهما الروح، وعم سكوت أخرق الغرفة. ثم سأل وهو متردد:

هل يحدث هذا كثيراً؟

لا، هي أول مرة يصيبني فيها هذا الألم.

لا..، أعني أن تركض ليلاً؟

ما علاقة هذا بالألم الذي يعتريني؟ بدأ وجهي بالتقلص بفعل الألم، وتباً للتوقيت إذ فتح هذا التعبير على وجهي جحيماً من الأسئلة.

هل تتضايق من هذا النوع من الأسئلة؟

أي سؤال؟

نظر إلى الملف ثم نظر إلي مرةً أخرى. رائد؟ هذا هو اسمك؟ في أي قطاع تعمل إن سمحت لي بالسؤال؟ وهل يتطلب هذا منك الركض ليلاً؟

آه.. في ريادة الأعمال حالياً.

حالياً؟

نعم، كنت مهندساً في السابق. اسمع..أنا..

قاطعني: هل أنت مستعجل؟

“نعم.”

هل كان يركض أحدهم معك؟

استطردت.. وأعدت السؤال على نفسي ” هل كان يركض أحدهم معك؟”

والطبيب والممرض يمدان عنقيهما: ها؟ إيه؟

قلت: إي. إي. كان هناك شخص هندي يركض ثم توقف وأكملت الركض.

توقف وهنا انكب يشخبط مرةً أخرى في الملف بانفعال واضح، بدت الخربشات أكثر وضوحاً بل لا ابالغ إن قلت أنه كان يحفر خربشاته لا يكتبها.

ثم سأل كأنه يسأل طفل، يقطع الكلمات ويمدها: ما الذي يدريك بأنه.. هنــــــدي حقاً؟

مسكت بصدغي ونظرت إليه في حيرة. هل يظنني مجنوناً؟ ثم أن ألماً حاداً أصاب قدمي فقبضت بشكل مفاجئ على قدمي. وأنا أنظر إليه فما كان منه وممرضه إلا أن جفلا وقد بدا الذعر واضحاً عليهما.

تباً.. لن استطيع دفع تهمة الجنون عن نفسي الآن! أنا في أقل تقدير، مريض نفسي وهو ينظر إلي بشغف علمي وخوف في آن واحد. بل إن الجنون هو كل الجنون في دفع التهمة الآن، أي شيء سأقوله قد يفسر على أنه هلوسة، وتخيلات. لا تهم الحقيقة الآن بقدر ما يهم فهمهم لها. فهمهم وإدراكهم هي الحقيقة الوحيدة وإن كانت الحقيقة مخالفة لذلك فلا يهم. استطيع أن احلف، لكن هل الحلف يدفع شبهة الجنون عن المجنون؟

رائد رائد؟ انتبهت وإذ بالطبيب يناديني، ابتسم ابتسامة مصطنعة، تلك التي تحتمها الوظيفة كابتسامة مضيفة الطائرة “هل ممكن أن نعطيك إبرة بسيطة؟”

إبرة؟ لا..ما رأيك في أن آخذ حبوباً ثم أعود لك متى ما انتهيت من رحلة العمل؟

هل واثق أنت من أنك ستعود لزيارتنا؟

بكل تأكيد، وبدون أدنى شك! ابتسمت ثم رحت احملق في زاوية خاوية، لإضافة اللمسة الأخيرة على هذا الجنون الذي شخصني به.

حسناً إلى اللقاء يا رائد

الله ياخذك دكتور.

ما ذاك؟

في حفظ الله دكتور.

ثم سأل الممرض بأن يرافقني إلى الصيدلية حيث أخذت الحبوب وانتزعتها من يد الصيدلي في عصبية واضحة، ثم انطلقت إلى الخارج، فطلب الممرض مني أن انتظر لوهلة لكني بدأت العدو وأنا أعرج خوفاً من أن يقبض علي فأطيح أرضاً وأنا أصرخ كأني والد البطل الهندي في أول الفلم، ويقتلني رئيس العصابة وهو يضحك.

أخذت ألهث، فرحت لأني هربت من يديهما بعقلي والحبوب. نعم الحبوب، تناولت الحبوب ويدي ترتعش من فرط الفرح، جلست على العشب وإذ برجل يعرفني فحياني، قائلاً: عسى ماشر؟

قلت: الشاورما تجيك! (وقد عنيت: الشر ما يجيك) من فرط الفرح والاستعجال. ألم في رجلي أجلك الله.

ابتسم قائلاً: وما حاجتك لحبوب الزكام بيدك؟

نظرت للحبوب، ونظرت لرجلي، نظرت للحبوب ونظرت لرجلي مرة أخرى. أخذت أضحك وأبكي.. وأنا أقول: والله هندي.. والله هندي!

خاتمة:

بقيت على حالي مدة أعني العرج لا الجنون مدة. لجأت إلى الله، وأصررت على صلاة الفرض في المسجد متمثلاً بقول الشاعر:

أسير خلف ركاب النجب ذا عرج — مؤملا كشف ما لاقيت من عوج
فإن لحقت بهم من بعد ما سبقوا — فكم لرب الورى في ذاك من فرج
وإن بقيت بظهر الأرض منقطعا — فما على عرج في ذاك من حرج

وحده الله، ينظر إلى فلا يشتبه عليه شيء سبحانه، وحده يعلم دون أن أدفع الشبه، أو أشرح وأبين، لأنه -جل وعلى-لا يعنيه المال والصور، لا ينبغي أن أوضح، ولا أن أبيّن. يكفيني الاعتذار وطلب المغفرة وأن يريني رحمته كما أراني قدرته.

لم أقول هذا؟ لأن الحقيقة تتلون بلون من ينظر إليها، لا بلون من يحملها سواءً كنت فرداً أم جماعة. فقد يكون الحزب ممثلاً شرعياً لرغبة شعبٍ ما، معترفاً به عالمياً اليوم، ثم يكون تنظيماً إرهابياً مسعراً للحرب ووحشاً كاسراً في الغد وهو من ذلك كله براء. قد تكون أنت مثالاً للكمال ذات يوم بين ظهراني قومك، يفخر بك الرجال، وتدعو الأمهات رب السماوات لأبنائهن ليحذون حذوك وإذ بهم لا يلتفتون إليك بل ويتعوذون من سوء حالك، ولم تتغير أنت مقدار أنملة، لكنه الحقيقة تتلون في أعينهم.

نعم، وحده الله ينظر إلى قلبك ولا يعنيه كيف؟ ولم؟ وما أنت فاعل بعد ذلك كله؟ لهذا هربت من الطبيب إليه فبرئت.

تنويه: إذا كان ما فهمت من تدوينتي هذه بأني أصرف الناس عن الطب فقط، فعليك بنفس الطبيب الذي تحدثت عنه وعلاجك عنده. الله ياخذه ويشفيك! 

FacebookTwitterGoogle+WhatsApp
  1. Ajayan

    2014/01/13 - 02:42 ص

    الله يأخذه ويشفيني ، سوال من هو الشخص الذي رأيته في المواقف او على العشب

  2. Raed

    2014/01/13 - 04:53 ص

    الهندي!

  3. layal7

    2014/01/21 - 11:36 ص

    من زمان لم تضحكني تدوينه
    المهم سافرت والالم معك ؟؟

    اعجبتني
    شعور المرء بالمصيبة يخف بقدر المصابين بها

أضف تعليقك

*

أهم التدوينات