مواطن وإن كنت فوق الخمسين

اعتراف

أنا..أنا..أناني.

===

اقترب من كهولتي، ينذرني بهذا رسل الموت: شعرات بيضاء تلوح بعارضي؛ وعظام تئن في بعض الأحيان، وأمراض تتوسد جسدي فيطيب لها المكث ما اشتهت وما أرادت البقاء. الله بالخير يا جهاز المناعة!! وين الرياضة، والغذاء الصحي، والفيتامينات، وتقليل الدهون، والابتعاد عن النشويات؟ عل أحسن ما قيل في التعاطي مع هذا كله مقولة أحد الشيوخ إذ هم بأكل الدسم والشحم قبل اللحم، فقام أحد الشباب واعظاً: “يبه، السكري” فنظر إليه الشيخ بكل ازدراء “هذا السكري لو حشمته ما حشمك” 

ما الذي أخشاه مع تقدم العمر؟ أهو الموت؟ نعم أخشاه وقد خشيه من قبلي من قدم لآخرته أكثر مما قدمت واقترف من المعاصي أقل مما اقترفت، إلا أن الموت مصير كل حي ولا يؤخره حرص أو يؤجله أمل. ما أخشاه بالإضافة إلى ذلك هو أن أموت قبل أن أُقبض! علك الآن ترميني بالتعقيد، بالخرف، أو بالفلسفة. لكن هذا ما أبلغ وصف لما أود الحديث عنه اليوم وهو المصير الذي يلاقيه الكثير من المواطنين اليوم: ما فوق الخمسين سنة!

كيف يحدث هذا الموت بالضبط؟ لا أدري حقيقةً…! كل ما أعرفه هو أن المواطن يكون في قمة عطاءه، في قطاع ما، في مؤسسة ما، وكل من تعامل أو عمل معه يصفق قائلاً: “لا يوقف..لا يوقف” يبلغ نفس المواطن الخمسين من عمره وفجأة “صار الواوا بح!” 

 هل تقاعد؟ لا.

هل هو على رأس عمله؟ لا. 

أهذا لغز؟ نعم ولا. 

تأمل محيطك. ستراهم في بيتك، في عترتك أو عشيرتك، في حّيك أو من ضمن معارفك. هم لازالوا أحياءً في السجلات، وفي المعاملات الرسمية، هم موجودون على ظهر المعمورة، يعيشون بين ظهرانينا، تتكدس بهم المقاهي، وتكتظ بهم الأسواق، وتزدحم بهم الطرقات، تجالسهم في المجالس لكن هناك ما يشبه الحاجز الشفاف بيننا وبينهم، لا يستطيعون معه أن ينفذوا إلى المجتمع أو إلى سوق العمل بالرغم أن لديهم الكثير مما يستطيعون إضافته والإدلاء به. بالرغم من جهودهم، وإخلاصهم، وطاقاتهم لكنهم أُهِملوا، لم يُركن إليهم بل رُكِنوا بعيداً عن الأضواء على رف من رفوف النسيان.

قد تجلس إليهم، أو تلجأ إليهم في أمورك الشخصية، قد تستشيرهم وتأخذ برأيهم لأنك تطمئن لجانبهم، ولا تحتاج لأن تشرح لهم ما تمر به لأنهم سبقوك إلى حيث هم الآن. هم يفهمونك دون الحاجة لدراسات استشارية أو مسوحات استبيانيه. “قلبهم عليك” وعلى البلد من قبلك. لكن إلى هذا الحد وعنده ينحسر دورهم، في القالب الاجتماعي فقط. حضور عرس هنا، وتقديم عزاء هناك، والجلوس في المجالس. بالإضافة إلى البرامج التراثية التي ينزلون ضيوفاً عليها لا كبر سنهم، بل لحداثة عمر مقدم البرنامج! حتى لو أن أحدهم قال لي أن مقدم برنامج سأل كهلاً: يبه شلون حياتكم قبل الآي فون؟ لما استغربت.

أناس لم يبخلوا بجهدهم واجتهادهم في سبيل كل شيء. لم يقصروا إلا في حق أنفسهم، ضيعوا أوقاتاً عائلية، وفرصاً استثمارية. من أجل ماذا؟ من أجل العمل، وهاهو العمل يستعيض عنهم، ليبقيهم وراء ذاك اللوح الشفاف حيث يشاهدون في صمت. لأنهم تعبوا من النصح والكلام، لأن المرارة ذهبت وبقي مكانها الأسف والأسى لما يرونه يتكرر تارة تلو الأخرى. 

أرجوك خذ نفساً عميقاً… أغمض عينيك، ثم افتحهما مرة أخرى واسأل نفسك:

 من كثرنا؟ اصبر.. حاول مرةً أخرى. 

من كثرنا؟ رددها وأعد المحاولة.

 لن يزيد تعدادنا مهما أعدت الكرة، وإن زاد فليس بالشكل الذي تولد به الخبرات والدروس المستفادة من الأخطاء خلال عقود بين ليلةٍ وضحاها. 

من يخسر؟ عندما يكون بيننا من بني جلدتنا من هو حريص علينا وحريص على بلده لكننا نأتي بمن هو أقل منه علماً وأقل حرصاً فنعطيه الفرصة ليبني، ويساهم، ويعمّر طوال العام. وهؤلاء ليس لهم سوى يوم واحد يظهرون فيه حبهم للوطن؟ لم لا يستعان بهؤلاء الذين بلغوا هذه المرتبة من الخبرة في شتى المجالات التي لا تتطلب حضورهم اليومي؟ في مجالس الإدارات؟ في اللجان؟ في رفع التوصيات، في دراسة المقترحات؟ هم ليسوا مجرد تحف للعرض، هم بشر لهم طموح في هذا العمر، ورغبة في العطاء، فلم لا يتسع لهم الوطن في جانبٍ  ما؟ هل أبلغ من السذاجة بأن أجزم أن جميع من ناهز الخمسين ثروة للبلد؟ لا، تماماً كما لا يبلغ بي سوء الظن والعجب بالنفس بأن أحقر كل فعل قاموا به، وأسفه كل رأي صدر عنهم فأرى بأن الله فتح علي باب الحكمة وأوصده دونهم، ففهمت ما لم يفهموه وعقلت ما اشكل عليهم.

يوماً سأكون أنا وأنت – إن مد الله في عمرنا -من هؤلاء. فلو كانت الاستفادة من خبراتهم، والانصات لآرائهم لمجرد الأنانية حتى لا ينتهي بنا المطاف مركونين ومهملين فلنستفد منهم! 

FacebookTwitterGoogle+WhatsApp

أضف تعليقك

*

أهم التدوينات