أنا منمن. بابا معايا.

لابنتي منيرة التي تبلغ الثلاث أعوام اليوم عذوبة في سبك الكلام إذ أنها ما أن تحاول البوح عما يختلج في نفسها حتى تأتي بالفعل، فتلحقه بصفة أو حال، ثم تتبع ذاك كله اسمها – الفاعل-وتكني نفسها ب “منمن”

فعلى سبيل المثال تقول:

“تاحت حرام.. منمن”

أي أن شيئاً وقع والخطب جلل لقولها “حرام” وفعل “تاحت: أي وقعت” أما صاحب المصيبة فمنمن نفسها!

لكنه موقف تكرره، وعبارة تستثني منها كل القواعد التي ذكرتها فرأيت أن أدونها لما لها من وقع في نفسي. ذاك أنها أحياناً إن رأتني أهم بالخروج تلبس نعالها على عجل -أجلكم الله – فتسبقني إلى الباب لتقول:

“أنا منمن. بابا معايا.

وقد أكون ذاهباً للمسجد أو العمل، فأجثو على ركبتيّ واعتذر لها، اعلل بكل حجة، أوعدها بكل هدية وأشرح لها أني سأعود بعد برهة فتغرورق عيناها بالدموع، وتأخذ بتلابيبي قائلة: “أنا.. أنا..” تعيدها على بصوت تقطعه أنفاسها وكأنها تقول لي أنها أهم، وأنه لا يحق لي بالذهاب دونها فإما منمن أو لا أحد! حتى إذا يئست، جهشت بالبكاء، وذهبت لترتمي في حضن أمها وهي لا تدري لم يهجرها والدها بضع دقائق ذاهباً للمسجد؟ أو بضع ساعات قاصداً العمل؟ أو في بعض الأحيان بضع أيام في بعض أسفاره؟ تشتكي، يترامى إلي صوتها من بعيد، من خلف الباب الذي يفرّق بيننا: با با.. ما يحبج منمن.  

 ابتسم، بالرغم من ذاك الوخز الذي أجده في نفسي ولا أدري ما مصدره؟

وهذا هو الرد يا غاليتي من والدك الذي يحبك:  

أي بنية وهل ذهب والدك إلى المسجد فرُفعت يداه لدعاء، إلا كنت أول من يدعو له؟ وهل يفضل والدك الذهاب للعمل على الجلوس معك والاستماع لك، إلا وكان همه أن يكفيك هم المال؟ أصدقك قولاً الجلوس إليك امتع، وكلامك أفصح، وأنت أوفر عقلاً من كثير من الكبار الذين أقابلهم! لأنك تريدين بالكلام أن تظهرين ما بداخلك، وهم –لعمري-يريدون بالكلام أن يخفوا ما بنفوسهم.

بنيتي. قد تتمكنين من قراءة هذه الأسطر بعد حين وقبل أن أريد منك أن تمري بهذه السطور، لكنك لن تفهمين مقدار ما يحمله والدك لك حتى ترزقين بالذرية الصالحة. أي بنية قد يكتب الشاعر ما يجد في خافقه، حتى إذا نطق بشعره بقي الكثير في نفسه فسمي هذا وجداً، وقد تبكي المرأة من فقدت فما بقي ولم يجري به الدمع كان فقداً. وما بقي في صدر والدك أضعاف ذاك كله.

دائماً وأبدا أنت.

ودائماً “بابا معايا” وإن بعدت المسافات، وطالت الساعات.  وإن جاء يوم فطويت الصفحات فاعلمي، أنه ما فارق والد هذه الدنيا إلا بقي من بعده دعاء يحفظه الليل في جوفه، ورجاء يردده الفضاء من بعده: اللهم اجعل قرة عيني من اهل السعادة، واحفظهم من كل شر، واجمعني بهم في جنة الفردوس الأعلى. 

المحب لك دوماً،

بابا. 

FacebookTwitterGoogle+WhatsApp

أضف تعليقك

*

أهم التدوينات