قهر المستحيل

استمع للمذياع، بحثاً عن شيء يدخل السرور فأجد الست – أم كلثوم -تصدح:

“ده كلام..؟ أنساك..! يا سلام..! أهو ده اللى (مش ممكن) أبداً. ولا أفكر فيه أبداً. ده (مستحيل) قلبي يميل ويحب يوم غيرك أبدأ.”

يتسرب الملل إلي فأبحث في تويتر عما يلهيني عن الزحمة الخانقة، فامعن النظر في تغريدة لمغرد محشش متحمس: 

في البداية يتجاهلونك،

ثم يضحكون منك،

ثم يقاتلونك،

ثم يشربونك شاي كرك،

ثم تنتصر!

المهاتما غاندي

أغلق باب بيتي، فاجلس بين كتبي، ثم استعيذ بالله من الشيطان، افتح كتاباً لرجل مفهي، أجريت تعديلات فوتوشوب على وجهه. -أي فوتوشوب؟ إلا فوتو مول! – لأقرأ:

“قالوا مستحيل. لكن حققنا المستحيل، أصلاً إحنا نعيش مرحلة ما بعد الحشيش (قصدي المستحيل)”

سؤال يراودني: هل بقيت وحدي من يؤمن بالمستحيل ويقيم له قدره؟

ظهرت في الآونة الأخيرة موجة عارمة تطرب للإصرار والعزيمة، تحب قهر المستحيل بل ويلتبس عليها الأمر فإن رأت مريضاً -شافاه الله – طربت لقهر هذا المريض للمستحيل بالعزيمة والاصرار، وإن مرت بفقير معدم رزقه الله قالت قصة تاجر المستحيل من فقر مدقع إلى ثراء فاحش بالمثابرة والتكرار. هناك هوس مسعور بتحميل الإنسان مهمة جديدة وهي صناعة المستحيل! لكن، أكل ما نعجز عنه مستحيل؟ هناك من المتفيهقين من سيقول: نعم! لقد كان من المستحيل أن تخاطب أحدهم في أصقاع الأرض، واليوم تستطيع أن تكلم من شئت في أرجاء المعمورة لحظياً، أو تسافر لتجتمع به في أقل من يوم أينما كان، وما تأتّى هذا لخليفة المسلمين هارون الرشيد وقد طاعت له الأرض!

 

والجواب: أن علم المنطق يحتوي على فرق شاسع بين المستحيل، وغير الممكن. فالمستحيل ما يستحيل حدوثه عند العقل، وهو المستحيل بذاته، لا يتغير بفعل الوقت.  كأن نقول بأن معدن الذهب يذوب في ماء عادي، أو ألا يموت أحدهم مهما امتد به العمر، أو أن تنهي هيئة أشغال[1] من شارعٍ ما في وقته، إلخ…من مشاريع أشغال. أما غير الممكن، فليس مستحيلاً مهما كانت درجة صعوبته، وذاكم هو المستحيل بما يحيط به من وقائع. كشفاء المريض بعد يأس، وثراء الفقير بعد بأس، أو تعدد وسائل التواصل بين الضغط واللمس .

بل إني لأعجب من هؤلاء الذين يصرون على قهر المستحيل، والسعي وراء هذا المستحيل لا يعدو عن السعي وراء السراب. كيف استعصى عليهم ما عقِلَه كفار قريش والكثير ممن قبلهم على قلة معرفتهم، وبساطة ما وصل إليه علمهم كنقل القرآن عنهم:

{وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا، أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا، أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا، أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا}

فهؤلاء الكفار البسطاء أرادوا المعجزات دوماً، لأنها خرق للعادة أي قهر للمستحيل بصنفيه كما في الآية واعتذار الرسول -صلى الله عليه وسلم-بأنه بشر، ليس له أن يختار على ربه[2]. فتحقيق المستحيل وقهره هي صفة الخالق لا من عادات المخلوق، وعليه لا أدري هل يعلم مقدار ما ينشد هؤلاء

همسة لمن اختلط عليه فظن أنه قهر المستحيل:

المستحيل حقيقة علمية، لها فرضياتها وشواهدها والتعامل معها لغويا من منطلق شعري لا يلغيها.

و ولله لو كنت متخذاً مما قال الشعراء بيتاً في المستحيل لكان:

لما رأيت بني الزمان وما بهم ***** خل وفي للشدائد اصطفي

أيقنت أن المستحيل ثلاثةٌ ***** الغول والعنقاء والخل الوفي

 رجل المستحيل،

 

رائد


[1] أشغال: الله وكيلك كابوس قطري يهدد الإنسان. يأكل الإسفلت، يعيث في الأرض فساداً ولا يرقب في أي شخص يذهب للدوام إلاً ولا ذمة

[2]  “قل سبحان ربي” وقرأ أهل مكة والشام “قال سبحان ربي” يعني النبي صلى الله عليه وسلم؛ أي قال ذلك تنزيها لله عز وجل عن أن يعجز عن شيء وعن أن يعترض عليه في فعل. وقيل: هذا كله تعجب عن فرط كفرهم واقتراحاتهم. الباقون “قل” على الأمر؛ أي قل لهم يا محمد “هل كنت” أي ما أنا “إلا بشرا رسولا” اتبع ما يوحى إلي من ربي، ويفعل الله ما يشاء من هذه الأشياء التي ليست في قدرة البشر، فهل سمعتم أحدا من البشر أتى بهذه الآيات وقال بعض الملحدين: ليس هذا جوابا مقنعا، وغلطوا؛ لأنه أجابهم فقال: إنما أنا بشر لا أقدر على شيء مما سألتموني، وليس لي أن أتخير على ربي، ولم تكن الرسل قبلي يأتون أممهم بكل ما يريدونه ويبغونه، وسبيلي سبيلهم، وكانوا يقتصرون على ما آتاهم الله من آياته الدالة على صحة نبوتهم، فإذا أقاموا عليهم الحجة لم يجب لقومهم أن يقترحوا غيرها، ولو وجب على الله أن يأتيهم بكل ما يقترحونه من الآيات لوجب عليه أن يأتيهم بمن يختارونه من الرسل، ولوجب لكل إنسان أن يقول: لا أومن حتى أوتى بآية خلاف ما طلب غيري. وهذا يؤول إلى أن يكون التدبير إلى الناس. وإنما التدبير إلى الله تعالى.
تفسير القرطبي

FacebookTwitterGoogle+WhatsApp

أضف تعليقك

*

أهم التدوينات