الخليجي ذو التمر واللبن، والفلاحة.

إهداء: إليك أينما كنت.آسف.

اعتراف: يتطلب الأمر بعضا من الشجاعة لكي تعترف بخطأ ما في العالم العربي، ويتطلب الأمر تهوراً لكي تكتب ذاك الاعتراف. لكني أفعل لعدة أسباب بعضها سهل وظاهر للعين، والبعض أبقي عليه لغاية في نفس يعقوب.

==

حدث قبل أعوام في مكة وفي رمضان، وقبيل أذان المغرب، نزلت إلى ساحة المسجد الحرام. نظيف الثوب، حليق الرأس، تفوح مني رائحة الطيب -واللي يعلق إن شاء الله تبقى معفن طول عمرك –وقد خلّفت أقواما خلفي يقطنون أجنحة فندقية تطل على الكعبة المشرفة، وأنا أضحك من بعضهم قائلاً: “يجوز رؤية الكعبة المشرفة بعد أداء العمرة!” وهو ما أصبح أمراً جلياً مؤخراً لمن ينزل في الأبراج العالية، فالمصلى يطل على الكعبة، وهو أنظف، وأعطر، وأبرد، وأجمل، وفيه أيضاً من اللطف أنك توسع على إخوانك المسلمين وهذا كله مدعاة للخشوع وعليه فالصلاة في الفندق لها أجر يكاد يحاكي أجر من صلى في صحن الكعبة، لأن مكة كلها حرم! 

يسروا ولا تعسروا… بشروا ولا تنفروا. لكن نهجي دائماً كان أن أخالط الناس، لذا آثرت النزول والتعسير على نفسي! 

ما يلفت النظر هو أنك لا تكون أبداً جزءً من بداية العرض في مكة، أنت مجرد دور في مرحلة ما. أما عن لحظة البدء، فهي مذ هبط أبونا آدم، ثم بناء البيت على يد أبينا إبراهيم وابنه إسماعيل – عليهم أفضل الصلوات وأتم التسليم – فالكل هنا في حركة منذ لحظة البدء. إما معتمر يقبل على بيت الله، أو أحدهم ترى في وجهه السعادة لأنه أتم العمرة أو أنهم أناس مشغولون بيومهم، كالباعة، والمتسولين، والعسكر، وعمال النظافة وأنت في كل هذا ينبغي أن تكون جزء من هذا العرض السرمدي.

أخذ الناس بالتوافد إلى الحرم، السُفر تمد، قوارير الماء تُصف، التمر يُوضع، والناس تأخذ أماكنها خشية أن يسبقها أحد إلى ما تم وضعه وصفّه. البعض مستلقي على ظهره، وأقوام يقرؤون كتاب الله، والنساء تزيد على هذا العناية بالأطفال.

الروائح تختلط ببعضها البعض كغيرها من الأشياء في مكة بعضها ذكي أخاذ وآخر نفّاذ تكاد تتقيأ من شمك إياه. تستطيع الوقوف في نقطة واحدة لتمر بك آلاف الصفات من كل شيء دفعة ثم تأتي من بعدها أضدادها في فوج آخر كأن يمر بك الشاب، والغني، والضحوك ثم يأتي من بعدها الشيخ الكسيح والفقير والعبوس، أو تأتي كل صفة بصحبة ضدها، كأن يمشي الغني ذو الجاه بجانب الفقير المعدم، ولا هم لهما سوى الوصول إلى مكان يرتضيه كل منها. 

وفي خضم هذا كله أصوات وألسنة تصل إلى أذني مختلطة مجتمعة أحيانا ومفردة، بعضها يُهمس وآخر يُصرخ. أردت اختبار سرعة تعرفي عليها: نظرت للأسفل، تركت لأذناي التعرف على المحيط من حولي تعرفت على التركية أمامي، والهندية عن يميني، والعربية في لكنتها المغربية في نفس الاتجاه، الروسية من خلفي، والصينية من بعيد، الفارسية جاءت بعبارة أو عبارتين، الانجليزية كانت تأتي همساً ثم تعاود الاختفاء، وبعض من الألسنة جهلته لا أدري أكانت الفرنسية أم الإيطالية؟ ولسان أفريقي هل كان سواحيليا؟ لا أدري..رفعت عيناي أردت الاحتفاظ بهذا كله لنفسي، أردت حفظه بعيني وأن استودعه قلبي، لا من خلال عدسة ثم إلى موقعٍ ما.

أما العمال، فكل عامل له لون ووظيفة محددة، من يلبس الأزرق يهم بالنظافة، من يلبس الأخضر عليه بأن يوزع الطعام، ومن يلبس البني يمشي وخلفه أناس يعاينون ما ينبغي إصلاحه. وهناك من ليس من ضمن العمال، يلبس الزي الزيتي ويصرخ: “حج يا حاج، حج يا حاج!” كل الألوان تنظر للون الزيتي بنوع من العجب، والخوف في آن واحد. 

وإذ بفتية يقبلون علي، وجوههم مرهقة سواعدهم قد شمِّر عنها، وابتسامتهم مشرقة:

“سبّل سبّل تبغى تنقي..” 

“سبّل يا حاج عصير، لبن، تمر سمبوسة و..” 

كان أحد الشباب يسرد علي ما تحتوي وجبة الطعام التي يعرض توزيعها كابرع ما أنت راء من نادل في أرقى المطاعم.

وسبّل تعني: اعط في سبيل الله، أو لابن السبيل. راقت لي الفكرة، وكانت آنذاك حديثة عهد. 

“هاك أمسك الوجبة دوبها متعبيه! ” مد إلي صندوق ساخن، تفوح منه رائحة زكية.

“بس بس يخرب بيتك بفطر الحين، قصدي جزاك الله خير.. طيب كم صندوق عندك؟”

“تبغى تسبل مكة بس؟ ولا المدينة كمان!؟” رد وهو يضحك.

“توكل على الله.” رددت وأنا معجب لسرعة بديهته.

اتفقت وإياه على الكمية، وعيون كثيرة ترصد شيئاً واحداً انتقال أي لفافة ورقية من يدي إلى يده، وما أن فعلت حتى تلاطمت جموع بشرية، كلها فاغرة أفواهها وتمد أياديها نحو مجموعة قامت بالتوزيع،  الصناديق تتطاير في الهواء ثم تتلقفها الأيدي “هنا، جيب..عطني، هات وكلمات أخرى تطير في الناحية الأخرى بدأت تسأل في استحياء ثم صارت تنادي وتطالب، كأن هناك غضباً ينام تحت هذا الكلمات لأنهم يرون رجلاً يريد أن يعطي، وفي خيالهم أن لديه مفاتح خزائن قارون، وكل من يقف بينهم وبين هذه الكنوز شاب وصحبه يلقون بعضاً من الصناديق.

أشير بيدي فأسقي أقواما وأشير بالأخرى فأطعم أقواما آخرين، كل هذا والكعبة على بعد بضعة مئات من الأمتار، وأبراج مكة تظلني. نعم.. أنعم الله علي، فنشرت نعمه بين خلقه في بيته الحرام، خليجي مثالي، يقاسم بقية المسلمين تمره ولبنه. لكن الضجة تعالت والزحام ازداد، وإذ بمسلم أفريقي ضخم يكاد يفتك بصبي لأنه سبقه لأكثر من وجبة. بل وفي يد الرجل وجبات عدة! فلما سألت ما هو فاعل بهذا كله؟ قيل لي أنه سيبيعها بثمن أقل من ثمن التسبيل حتى ينتفع بهذا المال.

ذهلت، في رمضان وفي بيت الله الحرام. ما مدى فقر هذا الرجل؟ وما مدى جوعه؟ كم عدد فقراء المسلمين؟ ولم انتظرنا حتى نصل لهذه المرحلة؟ حين يكاد يقتل الرجل صبياً لأجل دراهم معدودة؟

هل أثرت الفوضى دونما قصد؟ أردت التنظيم فجعلت أشير على من يحمل الصناديق بأن يرمي بعضها ذات اليمين وذات الشمال بدلاً من رميها نحو جمهورٍ بعينه. ثم أشرت عليهم ألا يعطوا من رأوا في يده شيئاً مما أعطوا.

وإذ بها تظهر من بين الجموع حاملةً صندوقاً في يدها وتمشي نحوي بكل سكينة ووقار، هي تعرج بشمالها، سيدة في الأربعين أو الخمسين من عمرها، تتشح السواد وتلبس عباءة سوداء أيضاً، هزيلة تنظر إلي حتى إذا صارت أمامي قالت بلكنة الفلاحين من مصر: يا ابني، لو سمحت هل لي بوجبتين أخرتين؟

صرخ الشاب في وجهها: يا حجة، الله ييسر لك.

لم تنظر إليه لكنها أمعنت النظر إلي: “يا ابني اسمع، أنا بحاجة لوجبتين. لو سمحت قل للشاب هذا أن يعطيني.”

ما كنت فاعل؟ لو أعطيتها لقام كل من أعطيت فطالب بوجبة ثانية وثالثة. ألم يوضع النظام لمنع هذا؟

قلت لها: اعذريني. لكن من أراد فليأت بنفسه.

ردت: لا يستطيعون يا سيدي.

ثم لم أعرها اهتماماً حتى قامت بما لم اظن أنها ستفعله، ألقت الوجبة من يدها، فالتقفتها أحدهم قبل أن تصل إلى الأرض، وهي تحدجني ببصرها ثم قالت:

“أني مش شحاتة يا ابني.بس أقول إيه؟ ربنا ما يحوجك يا وَلَدِي”

وانسلت من بين الجمع بعرجتها. أردت أن اتبعها لأعطيها ما أرادت وكأني استيقظت من وهم النظام الذي وضعته فأنساني ما أردت فعله.

فجأة بدت الكعبة بعيدة،

فجأة لم أعد أنا الذي يعطي بل الذي يطمح أن يُعطى، لكن هذا الموج البشري الذي تسببت به حال بيني وبينها.

وفجأة أذن المؤذن، فلم أرها بعد ذلك أبداً.

خاتمة:

 اليوم وبعد أعوام، لا زلت أسمع هذه العبارة ترن في أذني ” ربنا ما يحوجك يا وَلَدِي” اليوم أصبحت الصدقة عندي أكبر من المال نفسه، صرت أتبسم في وجه من أريد دفع الصدقة إليه، وأكون متردداً خشية ألا أجرح فيه ما هو أغلى عليه من النقود، فأحييه حتى إذا رأيت منه الانشراح دفعت إليه ما قسمه الله له وجعلني سبباً فيه، ثم أشيعه واعتذر له عن التقصير وأن الجود بالموجود. أرجو  ألا أنسى هذا ما حييت بسبب نظام ما. 

FacebookTwitterGoogle+WhatsApp
  1. مبارك

    2013/09/29 - 07:08 ص

    نعزي أنفسنا بحسن النية آنذاك. لكن الحقيقة المؤلمة أنه مهما أقنعنا نفسنا بذلك، أو مهما كانت نيتنا كذلك صدقا، فإننا جرحنا ذاك اﻹنسان. ونحن نستحق هذا اﻷلم، وما يصاحبه من ندم، بل نتمسك بهما، ﻷنه عبرهما فقط نستطيع أن نقتنع أننا نكفر عن ما سببناه لذلك اﻹنسان.

    هذا الشعور المؤلم هو سبيلنا الوحيد لنعيش مع أنفسنا يوما آخر. هنا فقط نستطيع أن نقبل أنفسنا كما هي، لا أن نقول بكبر “لا أندم على أي شيء فعلت ﻷن مهما حصل من صواب أو خطأ صيرني لما أنا فيه اﻵن”. ذلك من يضحك غلى نفسه، ﻷن التعايش الحق مع النفس يقبل الراحة والسعادة الناتجة من الذكريات الجميلة كما يقبل الحزن واﻷلم ولربما البكاء أحيانا على الذكريات اﻷخرى.

    ملحوظة: ليس القصد تعنيف ما فعلت، لكن قرائتي للمدونة ذكرتني بمواقف مشابهة حصلت لي شخصيا، فجرت هذه الكلمات على لساني متحدثا عن نفسي، لكن أحببت المشاركة بها. كلنا نحتاج قليلا من التهور.

أضف تعليقك

*

أهم التدوينات