سيف الله (الإنسان)..الهندي الأجودي

إهداء: إلى مسلمي كيريلا، أرق المسلمين قلوباً.. 

تمهيد: ينبغي لك أن تكون دائم التأهب إن كنت فرداً في فرقة الصاعقة، ضفدع بشري، أو ببساطة أب.. أنت لا تدري متى ينبغي عليك أن تهرع للمستشفى لأن فلذة كبدك حمّ فجأةً، أو لأن الغيارات “الحفاظات” انتهت  – أجلكم الله- دون أن يكون هناك غيرها أو ببساطة لأن طفلك يريد منك أن تستيقظ ريثما ينام، وتنظر إليه بعين حمراء كأنك  زومبي.. فجأة أيضا! 

لكن كانت ليلة من ليالي  الفزع من النوم لأن  “الحفاظات” خلصت فجأة، نعم أيها القرآء. أبت الحياة إلا أن أجرب مكس الاستيقاظ من أجل الحفاظ- أجلكم الله – مع الفزع بدون مايونيز فخرجت لا ألوي على شيء وقد رفعت  عيني للسماء قائلاً : يا رب..لا تكن نهايتي هكذا “مصرع مواطن سقط في حفرة من حفر أشغال  ليجلب الحفاظ…” يعني موتة مضحكة وهي وإن كانت لتلخص حياتي بطابع الفكاههة إلا أني أود أن يكون آخر عهدي  بالدنيا على غير حال. (اللهم الميتة الحسنة..قولوا آمين) امتطيت السيارة، ثم لا زالت بي حتى وصلت إلى أرض الأغذية -وأرض الأغذية ليست استعارة مكنية، بل اسم السوبر ماركت- فأنخت سيارتي، وحططت رحالي. 

دخلت، حياني هناك  كهل من كيريلا، سيف الله، نحيل لا تفارق البسمة محياه لزبائنه ولا يفارق الصراخ لموظفيه. أرض الأغذية أكبر من السوبرماركت حقيقة، إذ تبيعك أمور تقنية وتكنولوجية مثل اكسسوارات الآي فون، والسامسونغ، لكنها أصغر من أن تضم لنادي الجمعيات. تنتشر فيها المرايات وكاميرات المراقبة، والتي يستخدمها سيف الله لمراقبة موظفيه والصراخ عليهم من بعيد مثلا كقوله ” أشوفك يا اللي هناك.. رتب الأناناس يا أبو الكلام، شوف الزبون يا محمد داوود.. وهلم جرا – طبعاً بالملباري”

تحفاني إذ أقبلت عليه يجر بعضي بعضه معه: ها كيف حالك إنتا؟ كيف إنتا زين؟

الحمدلله..أجبت بتثاؤب. أمشي دون أن ادفع عربة أو أحمل سلة في يدي، وأنا أسمع صراخ سيف الله لأحد الموظفين بأن يمشي خلفي، لأني في أغلب الأحيان أندم على عدم وجود ما يمكنني من شراء بضائع أكثر، ففهم سيف الله وجعل العمال دائماً يضعون العربات في الممر الذي أقصده وكأن الأمر صدفة.

تصر والدتي أن الرقم (3) له ارتباط عميق بي، فقد ولدت في الثالث من شهر مارس في الساعة الثالثة عصراً، لكن هذا الرقم لم يكن له أي علاقة بي في تلك الليلة الدهماء، إذ رأيت 14 بني آدم ينزلون من باص كأنهم فريق مكافحة مخدرات، يلبسون ثياباً موحدة تتبعهم جلبة وصراخ، علمت أنهم موظفو مطعم فيما بعد وقد جاؤا بعد يوم شاق ليشتروا أشياء بسيطة تلزمهم.

اشتريت كل شيء على عجل، لسوء حظي وجدت نفسي الثامن في هذا الطابور طويل، حتى إذا فرغت وأقبلت على سيف الله أخذ يبتسم في كل فرح لأني اشتري حليب، وحفاظ يعني أن الفاتورة لن تقل عن المئة ريال بأي حال من الأحوال، هذا بجانب الماء وأكثر من غرض. ثم رأيت الحساب ٢٥٧ ريال قطري.

بدأت بالدعاء عليه وعلى حرثه بالهلاك… وهو لا يزيد أن يقول: “أنتا في فلوس.. حكومة يعطي فلوس..شيخ كبير جيب فلوس.” 

ناولته البطاقة الائتمانية، ثم أنه أخذ يجري المعاملة، وبقية من في الطابور يبدي امتعاضاً واضحاً. وإذ به يتلعثم ويقول في صوت منخفض: شيخ.. كرت.. ما يجي. 

قلت: حاول مرة أخرى!

حاول، وهو يلوم خطوط الاتصال. ثم هز رأسه جانباً في أساً فقال: شيخ ما يجي.. 

سمعت همهمات من خلفي ..فقلت له: دع الأغراض عندك، ريثما استعلم من البنك. 

مع خدمة العملاء:  عالم التفهي. وفيه ملحمة عبد الله وطني.. 

اتصلت وبعد سماع الموسيقى تعاد للمرة الثالثة، أخذني التفكير:”هل كل العالم في هذه اللحظة يشترون حفاظات وجميعهم يتصلون بالبنك لنفس السبب؟ لهذا لا يرد أحدهم على المكالمة؟ تباً لفكرة البنوك، أملك المال، لكني لا استطيع الانتفاع به! أيحال بيني وبين مالي في الدنيا؟ أقبر في الدنيا قبل قبر البرزخ؟ اللهم لا حيلة لي إلا بك، يا رب نظرة منك تجعل الكافر ولياً، يا رب نظرة منك تجعل الفقير غنيا.. يا رب نظرة منك..

صوت تثاوب في الجانب الآخر من المكالمة.. آآآآه لو أهلا، معاك شكرا عبدالله الوطني..  

أنا: أعد ترتيب الجملة يا عبدالله! 

أخوي، شلون أساعدك؟ 

السيستم Downعندكم حجي؟ لأن البطاقة ما اشتغلت.. 

لا٫ عادي.. ما في أي شي.  

هنا، اللحظات تمضي ببطء مثل السنوات، يتوقف الوقت ويتصبب العرق ويفيض الدمع ويتراعد الصوت ووجدت نفسي أقول : لا لحظة  ليش؟ إحنا أول الشهر.. المعاش ما مداه..لا دي مؤامرة. لكن تماسكت وتجلدت، حشرجت صوتي، ثم أخذت أحدث نفسي: عبدالله وطني مفهي وما يدري وين الله قاطه،

ثم بادرني عبد الله وطني: ألو؟

عبد الله ممكن تتأكد…؟ 

أوه.. صح أخوي. ما شاء الله عليك! طلع Down..

تنفست الصعداء. طيب متى يرجع UP؟

عبد الله وطني: والله…. ما أدري، يمكن  نص ساعة أو يمكن بعد أربع ساعات! 

لا، عبد الله..ركز معاي يا عبد الله وطني ما يصير ياخي نص ساعة أو أربع ساعات؟ مافي خصم؟

عبدالله وطني: شكراً على الاتصال أي  ثانية خدمة وطني عبد الله معاك الله في أمان..

عبد الله

عبد الله وطني: هلا.. 

روح نام..

عبد الله وطني: شكراً أخوي. في أمان الله.

البحث الكبير: وفيه يبحث البطل – أنا – عن كل ورقة نقدية وفي كل فتحة عن أي ريال فارط!.

فتحت كل الأبواب وجميع النوافذ، بل أني فتحت فتحة السقف طمعاً أن تمطر السماء ذهباً وفضة! كل هذا يتم على مرأى من سيف الله الذي كان يقوم بعملية البيع والشراء لبقية موظفي المطعم، عثرت على مئة وبضع ريالات. كانت كل ما أملك لحظتها بجانب ما ألبس وما أركب. عددت المبلغ مرة أخرى فإذ به يتناقص لبضع وتسعين ريالاً، خفت أن أعيد المبلغ فيصبح شيئاً وثمانين. واقنعت نفسي بأن البحث يجدي نفعاً – في حين أن نفسي لم تقتنع حقيقة لكن أخذتني على قد عقلي – خلطت بين الأمل، والطمع ولعمري كم أضاع أقوام أعمارهم خلطاً بين الاثنين.

ثم عدت أدراجي أمشي منهزماً نحو أرض الأغذية التي فرغت إلا من سيف الله وجماعته. انكسرت هيبتي الآن، لكن علي أن أفعل شيئاً حيال الحليب والحفاظ! قد يقول أحدكم: اتصل في أحد.. والرد: أكنت تعطي عنقك ليربط أحدهم معروفاً بها بحليبٍ وحفاظ؟ ياخي خلي عندك كرامة ياخي! وبعدين يمن أيهم علي وعلى مشعل (ترى أنقذتك وشريت لك حفاظ؟) أو أن أرجع البيت ويدي فارغة؟ فذاكم تمام الخذلان!

ابتسم سيف الله محرجاً: ها شيخ. كلام بنك؟

في هذه الأثناء، أخذ بقية الموظفين بالتظاهر بالعمل أو تنظيف الأرفف قريباً من الكاشير، حيث أنا وسيف الله.

قلت وأنا لا انظر إليه: ها.. إيه.

كنت أنظر إلى الأكياس، سألته: أيها يحوي الحليب والحفاظ؟

استغرب، لكنه أعطاني إياه. فقلت: خلاص..خلاص بس يبي هذا.

سكت لبرهة، فقال: إنتا ياخذ بعدين يجيب فلوس.

هانت علي نفسي! قلت له: يا سيف الله، قبح الله الدين..ذل بالنهار وهمٌ بالليل، ما كنت لآخذ شيئاً بدين. خلاص..

ثم حدث شيء غريب، أغمض عينه وقبض على معصمي.. ثم فتح عينيه وقد اغرورقتا دموعاً وهو ينظر إلي قائلاً: شيييخ.. شيخ..لا شيخ.. أنا معلوم أنتا من زمان! أنتا أشغال – أشغال:هيئة الطرق – كسر كلش شارع، لكن إنتا يجي هني. بليز شيخ، أنتا ياخذ.. ما في فلوس ما في مشكل، لكن أنتا كلش سمان لازم ياخذ باتشا مال إنتا – أي ابنتك- يبي هذا (وأشار إلى قطعة حلوى اشتريتها لمنيرة) وبقية الموظفين دموعهم تدور في أعينهم..أنتا في قبل صورة* داخل جريدة لكن هذا دنيا سبحان الله..الله كريم شيخ الله كريم.   

وأنا: لا! لا..لحظة والله العظيم محد فنشني! عندي فلوس بس البنك .. عبدالله وطني توني مكلمه وقال: بعد أربع ساعات بيصير عندي فلوس… قسما بالله نكمل شارع سلوى في مبنى كبير أنا مديره، صدقني.

ثم صرخ بموظفينه ليحملوا الأغراض جميعها إلى السيارة: محمد داوود، أبو الكلام..

وركض الاثنان فرحان، فخوران بمديرهما ذو القلب الرقيق وإن كان لا يحب أن يرى بهذه الصورة.   

لكني امتنعت عن هذا كله، وأقسمت له أن آتيه في الغد وآخذ الأغراض حينها مقابل النقود. على أن آخذ ما استطيع دفعه الآن فنزل عند رغبتي. ورجعت إليه في الليلة المقبلة فاشتريت ما احتاج إليه وما لا احتاج إليه لأثبت له إني لا زلت “مدير كبير!”        

خاتمة:

سيف الله لم يقرأ أو يطالع في الكتب، لم يحلل أو يطرح ندوات. لم يحضر دورات في القيادة، وقراءة لغة الجسد والبرمجة الذهنية. سيف الله أبسط من هذا كله، لم ينتظر من أحد أن يقول : هذا شأن داخلي، أو محلي، أو عفواً لم يتكلم أحد عن كيريلا. لم ينتظر تفويضاً، أو فتوى، أو ضوءً أخضر ليعبر عن إنسانيته بكل استطاعته.

أتمنى أن نتسم جميعاً بهذه الشجاعة التي تمكننا من أن نمارس إنسانيتنا دون أن ندع أحداً يلجمها، أو يحبسها أو أن يبني بينها وبين من يحتاج لها ألف حائط.

رائد

المدير الكبير

*الصورة التي يشير إليها سيف الله كانت بالقرب من أحد أعيان البلد، وظل يحتفظ هو بها لأنه يفتخر بأن زبائنه شخصيات تظهر في الجرائد الرسمية. 

FacebookTwitterGoogle+WhatsApp

أضف تعليقك

*

أهم التدوينات