محاولة للسعادة: دولما باهتشة

التاريخ: 13 يونيو 2012

هناك، وعلى ضفاف البوسفور، حاول إنسان ما[1] أن يكون سعيداً على هذا الكوكب، لشدة ما يضحك القدر وتعجب الحياة منا معاشر البشر، إذ تبلغ أخبار الأمم الغابرة إلينا، ننظر إلى محاولاتهم تخليد آثارهم، كل مشهد من معارك خاضوها ومعارك لم يخوضوها إنما خُيل لهم أنهم فعلوا، ووالله ما فعلوا!  تدخل هذا المبنى، والذي يشتق إسمه من (ردم التراب والحديقة)  فتشده وتدهش للبذخ في كل صغيرة ودقيقة خارج القصر حتى في زواياه المهملة، حتى في ثناياه التي لا تتصور أن أحدهم سيقف عندها. ولكل بذخ في كل صغيرة هناك عجز في كل كبيرة في أنحاء الإمبراطورية التي توسعت، وسمنت، وعفت حتى ترهلت أطرافها، وأصاب رأسها الخرف فراحت تهدم ما شيد أسلافها، بجنون شيخ أراد أن ينفق ما جمع طيلة حياته لأن ليس له من يورث ما جمع.

يكفيك أن تعرف أن هذا القصر شيد في ثلاثة عشر عاما بكلفة خمسة مليون باونِد ذهبيِ عُثمانيِ أي ما يكافئ 35 طنِ من الذهب وأستخدمت أربعة عشر طناً من الذهب ضمن بناء القصر لتذهيب سقوف القصر[2]  ذهبت لشراء تحف يعج بها القصر، و زخرفة لفنانين ورسامين من إيطاليا وفرنسا، ناهيك عن الهدايا والمقتنيات النادرة. أصبح هذا القصر أيقونة إسطنبول، حيث تقام الحفلات الصاخبة ويستقبل وفود الدول، حيث مقر الخلافة. بل بلغ الإسراف على القصر غايته فى عهد السلطان عبد العزيز الذى تسلم الإقتصاد فى وضع إفلاس تام. حيث بلغت المصريف السنوية بالقصر الذى عين 5320 شخصا حوالى مليوني جنيه استرلينى. وبما أننا في شهر رمضان الآن، فقد جرت عادة بتوزيع البقلاوة في منتصف رمضان لعشرة آلاف جندي!

كل هذه القطع تبدو وحيدة، بائسة تتوق لزمان أسيادها، كل تحفة شاهدة على بأس من كان يسكن القصر، وسعة دخله، وحسن ذوقه. الجو مشحون بالذكريات في كل ركن، وفي كل زاوية وفي كل صورة معقلة وجوه تنظر بأنفة وكبرياء وكأنها أخذت على الزمان عهد ألا يغدر بها. كم من موقف وحدث لم يشهده سوى أثاث القصر؟ كم من سر وأمر خفي  لُفظ أمامها؟  ومؤامرة وخيانة، كم من الحب والكره تجسد أمامها فذهب كل هذا وبقيت هي حبيسة القصر؟ الأرضيات تئن صريراً تحت وطأ أقدام لم تألفها، تدوسها بلا اعتبار لمن مشى فوقها قبل زمن ليس ببعيد. خطوات سياح تفتقر للسكينة والكبر الذي اعتادته من أسيادها، وعدسات كاميراتهم تحاول في خلسة من الحراس التقاط سحر المكان فلا تنقل سوى صورة جمدة لقطع صامتة. بقي لك أن تعرف أن سادة القصر أعطوا أربع ساعات لإخلائه بغرض إجلائهم عن تركيا، لذا فالقصر خاو من الجواهر والأشياء الثمينة التي ضيعها أبناء العائلة في أوروبا في أقل من أربع شهور! بل لم يكتفي الزمان بهذا حتى جعل من أتاتورك الذي ثار على العثمانيين سيداً لهذا القصر، ثم هو الزمان يهزء بنا فيموت أتاتورك في إحدى غرف القصر وهي الغرفة 71، ليبقى القصر بتحفه وكنوزه بالإضافة لسرير مات عليه رجل حاول أن يملك القصر، فملكه. كتب الدهر بأتربته وغباره على كل قطعة أن هذا كله ملك للزمن من بعد كل هؤلاء.

أتى على الكُل أمـر لا مَـرد لـه ==حتى قَضَوا فكأن القوم مـا كانـوا


[1] هو السلطان عبدالمجيد الأول، السلطان الحادي والثلاثين للدولة العثمانية.

[2] المرجع

FacebookTwitterGoogle+WhatsApp

أضف تعليقك

*

أهم التدوينات