هديف كسري ومعرفة الفرد للفرد.

التاريخ: 18 يونيو 2012

هديف كسري، أي قصر الخديوي، والخديوي المعني هو الخديوي عباس حلمي الثاني، الذي ظل يهتف شعب مصر بإسمه قائلاً “عباس جاي” في الفترة ما بين 1914-1931 لكن للأسف لم تكن المرة الأولى التي يخذل رئيس مصر شعبها، ولم تكن ولن تكون الأخيرة. لم يبق من الرجل سوى صوره، وبقية ما ضمته الحكومة التركية لملكيتها وأخباره المبعثرة هنا وهناك. ولسنا هنا بصدد الحكم عليه.  

والحقيقة، أن لو رأى الشعب عباس حلمي في مستقره بتركيا لتفهم أمر عباس، الذي نجى من محاولة اغتيال على يد شاب مصري حين استقر في تركيا لظن أنه كان يتمشى في حدائقه الغناء كل يوم متمثلاً ببيت المتنبي:

يَقُولُ بشِعْبِ بَوّانٍ حِصَاني: أعَنْ هَذا يُسَارُ إلى الطّعَانِ

فالقصر ليس بالضخم قياساً ببقية القصور التركية، لكن موقعه لا يقل بهاءً ورونقاً عن أفخمها الباب العالي (طوب كابي أو توبكابي سراي بالتركية) ودولمه باغجة إذ يقع على سفوح خضراء، ويطل على مضيق البوسفور.بالرغم من أنها ليست صبنجة، إذ مهما بلغ إنسان في فنه فليس يقارب من خلق الله على أرضه. لكن خلط زرقة البوسفور بخضرة الأشجار التي رعاها الإنسان، تحبس الأنفاس. حدثني السائق قبل ذهابي إلى هناك، لحظة! نسيت أن أخبركم بأمر السائق والذي ينبغي أن تفرد له المجلدات! قال أردم: ستكون محظوظاً إن صادفنا عرسان هناك يا خاي (هكذا كان يلفظ لفظة أخي.)  

سألت: عرسان؟ أيقيمون زفافهم هناك؟

قال، وهو يضحك: لا ياخاي رائد، إحنا الأتراك بنحب نتصور، نمشي الحديقة نتصور بعدين نروح الفرح! (للعلم، أثبتت دراسات عديدة أننا لا نعيد النظر للصور التي التقطناها بنسب مرتفعة تصل إلى 90%) 

وعلي ولدت في يومٍ مبارك، وطالعي طالع السعد وخاتمتي خاتمة حُسن، هكذا جزم أردم وهو يرى العشرات من النساء يتوشحن الأبيض من الثياب، وبعض الألوان كالأزرق والوردي والتي استهجنها أردم الانطاكي وأخذ يحدثني بلا هوادة عن البدع التي احدثنها بنات إسطانبول، لكننا تركناه يذهب فيلقي التبريكات، ويسأل ألف سؤال، حتى ظننت أن والد العروس سيصفعه لشدة فضوله، لكنهم كانوا سعداء بهذا اللطف الذي أبداه من خلال أمنياته السعيدة بتسعة أبناء والأموال الطائلة والفرح. استطيع أن أقسم أن العروس كانت تبحث عن شيء تقذفه به حين دعا الله وهو يتظر إلى السماء بأن يرزقها تسعة أبناء، لكنني رأيت رجلاً يمشي بصحبة بعير، قصدي كلب! وهذا الكلب –أجلكم الله – شديد الضخامة- حتى أنك لا تخشى أن يعضك بل أن يبتلعك دفعةً واحدة. صاحب الكلب الذي كان كهلاً يجره الكلب حيث يشاء، أخذ يناقش أحد الواقفين الغرباء عن أمر ما في السياسة أقول هذا لأني سمعت اسم أوردغان يلفظ بين الجملة والأخرى، أما سبب وقوف ذاكم الغريب بجانبه لأن بناته كن يلعبن مع الكلب، والكلب بن ابيه كان ساحراً في تعامله مع السيدات والآنسات، إذ كان هذا الضخم يبدو كجرو لطيف، يقوم بفعل الحيل ويعلم أن الجميع يلتقط صوره. قلت في نفسي: ولو كنت كلباً تبقى خروف!

ما يهمني في هذا كله هو رؤيتي للغرباء يتعارفون مع بعضهم البعض، قد لا يتبادلون الاسماء ناهيك عن الابقاء على أسباب الصلة، لكن السائق التركي أردم في خلال الوقت الذي قضاه في الحديقة خاض في السياسة، تذمر من أعمال الطرقات، قارن بين عادات أنطاكيا وإسطانبول، استرجع أيام الشباب مع أحد الشيوخ.. تكلم في كل مجال مع عدة شرائح من المجتمع التركي. لم يتفق في كل وقت مع محدثه، بل أنه انفعل مع أحد ولم يلزم الأمر كثيراً كي أعلم أنه يتكلم في السياسة.

هذا التعارف بين الأفراد ينشأ عنه فهم وحراك وإن بات مبعثراً متشتتاً إلا أنه يتحرك نحو جهة تشير إليها بوصلة اسمها “هوية تركية” تجمع الكل تحت فهم واحد، وتسمح لهم بالتعبير عن هذه الهوية بما لا يقيدهم.    

المجالس في مجتمعاتنا بالرغم من ضيافتنا فهي ليست مفتوحة كساحة عامة، وعل الطقس لا يساعدنا على الذهاب للأماكن العامة بقدر ما نود على مدار العام، وعلنا تربينا ألا نتحدث بهذه العفوية مع الغرباء. لا أدري، ولا أدري ما إذا كان تويتر قد صار هذه الحديقة الافتراضية، لمجتمعات الخليج العربي كما هي حديقة هديف كسري للسائق أردم حيث الناس وإن كانوا غرباء يبقون أتراك بالحاجة للتحدث عن مجتمعهم .

FacebookTwitterGoogle+WhatsApp

أضف تعليقك

*

أهم التدوينات