مختلف،مخ..تلف.

قبل القراءة: لا تحكم على هذه الشخصية.

تمهيد:
هناك من يفرضون عليك معرفتهم، وهناك من معرفتهم تكون فرضاً عليك.

كانت الأمطار تهطل بغزارة في الخارج، والرياح تدوي في أرجاء المدينة، لكن علي كنت الذي استبشر بطقس كهذا حين كان أهالي البلدة كمن اعتاده بل تطيّر منه وضاق به! على عكس من يقطن الخليج العربي، يخيل لي أننا دائماً نحمل شيئاً من جفاف الصحراء بداخلنا، وهذا الجفاف يستبشر بالمطر أينما هطل.
كنت أنظر عبر النافذة وانتظر عندما أقبلا ينزعان عنهما معاطفهما المبللة، اتجها نحوي وابتسامتاهما تسبقانهما إلى طاولتي حيث كان كوب القهوة وبضعة كتب اشتريتها. لوهلة حسبت هذا كله عرش متواضع، بلاط ما. وهذان النبيلان، يقدمان علي حاملين رسالة ما. أنا..الجالس على كرسي جلس عليه مئات من قبل، ويجلس من بعدي مئات آخرون.

تم تقديمي من قبل صاحبنا المشترك بعبارة “هذا اللي حدثتك عنه.” ولا أدري كيف تم وصفي لهذا الماثل أمامي، أو أن صاحبي اضطر لنفي الإلحاح الذي قابل رفضي بمقترحه أول الأمر. ذاك لأني كنت متوقفاً في هذه البلدة وأواصل من بعدها سفري لذا رجوته أن يكون اللقاء بيني وبينه فقط ومن دون تكلف. لكنه أصر قائلاً: ينبغي لك أن تلقاه، أعلم أنك تهوى البشر وتحب الاستماع إليهم لأنهم بالنسبة لك بضاعة أدبك، ومصدر وحي قد تستخدمه في حينه أو تحتفظ بهم في مخيلتك لعمل ما. ثم أتبع ضاحكاً: لإن كنا نحن مجرد عناصر كيميائية تخلطها، فهذا عنصر لم تمر به قط!
وبعد عدة رسائل نصية، وعدة محاولات للقاء عبر ثلاث ليال استطعنا أن نضرب موعداً. كنت أتفحصه وهو بتقدم نحوي، يبدو لي كمن ودعه شبابه حديثاً، لأن سواد شعره لا يزال أشد كثافة من الخصل البيضاء. نحيل الجسد، أقرب للطول، ودائم الابتسام. تبدو ثيابه عملية ولا يبدو من النوع الذي يكترث لهندامه، له عارض خفيف، وعظام وجهه بارزة. جلس بعد أن حلف صاحبنا أغلظ الأيمان أنه سيجلب القهوة له ولصاحبه، ومزيداً منها لي. تجاذبنا أطراف الحديث أثناء مضي صاحبنا المشترك “سعد” لفت نظري أن الرجل عميق المعرفة بمجتمعات الخليج وآدابها فلم يفته أن يسأل عن الأعلام من عائلتي وأن يسأل عن أحياء في بلدي. هذه الأسئلة المُعدة، والتي تأتي إجاباتها كالأطقم الصينية بكل القياسات وبجميع الأحجام، ولأي غرض على طاولة الطعام في حقيقتها شكليات ليست بغرض الاستعلام بقدر ما هي بغرض الإعلام بأنك مستقبلاً ستعرف من تسأل عنه، وستضيف لهذه الأطقم الصينية لمسات شخصية كأن تسمي من تسأل عنه.

لمحت عينيه تتفحصان عناوين الكتب الملقاة على الطاولة.

“يقول سعد أنك تعمل هنا. ما شاء الله، عن طريق أي جهة؟ أو في أي مكتب تمثيلي؟” هكذا قطعت حبال أفكاره وهو ينظر للكتب، ثم أن سعد قدم فسألته: أثمة هناك أشخاص آخرون ينضمون إلينا؟ قال: لا! فقلت: إذا لم أتيت بطعام وحلويات تكفي قرية بأسرها!

وبعد جولة ثانية من هذه المقدمات والسؤال والاستعلام في حنين عن أقارب بعضنا البعض الرغم من أننا عرفنا بعضنا للتو، عرفت أن هذا الرجل، من بيتٍ رفيع النسب، وليس البحث عن ثمار المجد لعائلة كعائلته أن يتجاوز رهطه، وحاضر قبيلته غني بالمآثر كماضيها. مما جعلني أفكر: لما يخلف هذا كله وراءه ليكون هنا غريبا وحيدا؟ حيث يجهله الناس، أو لا يقيمون بضاعته.

أجاب: أنا أعمل هنا لدى شركة -ذكر شركة عريقة وذات صيت في قطاعها -مباشرة وبدون المرور بانتداب أو كجزء من بند لاتفاقية تقضي بتدريب كادر الطرف الأول لعقد ما.

قال سعد: عجزت وأنا أطلب منه أن يعود لبلده لأن خبرته الآن مطلوبة. “وش له بالغربة؟”

حتى هذه اللحظة كان يبتسم في وجه سعد ثم قال: “الغربة تبيني!” كيف بدت لك هذه البلدة؟ وجه السؤال لي.

كبقيتها من البلدان، حيث تكثر المحلات والمتاجر نفسها في بقية العواصم، ولا يكاد يميز هذه المدينة عن تلك سوى تاريخها أو طقسها أي ما لا دخل للإنسان المعاصر فيه.

أجاب وقد قطع ارتشافه للقهوة: وجهة نظر حقيقة بالتدبر!

ثم أخذنا نتكلم عن الخليج، عن التغيرات التي طرأت عليه، عن مستقبله وعن أشياء أخرى، حتى قال: “علكما تستغربان لكن مجتمعاتنا بالرغم من عدم انفتاحها للعالم على النحو الذي نراه كانت أكثر تقبلاً للاختلاف، ولا أراها وقد شرق أبناؤها اليوم وغربوا، وفي ظل الإنترنت أكثر تقبلاً للخلاف.”

قال هذا بنوع من الجزم، كأنه كان معاصراً لمئة عام مضت. ربما تساعده هيئته على ذلك، إذ يبدو شاحبا كمصاص دماء!
عارض سعد، واستفسرت أنا. ما الذي تقصد بالاختلاف؟ فقال: لا أتحدث عن السياسة أو الدين أتحدث عن الاختلاف فقط وتقبل المختلف يا سادة. في القديم كان هناك عدة آراء منها المحافظ ومنها المتحرر.
قاطعه سعد بعصبية واضحة: “هذا أمر نسبي يا شيخ.”
“ومن قال بأنه ليس كذلك؟” أجاب وهو يبتسم، كأن إغاظة سعد كانت تطيب له!
قلت: سعد دع الرجل يكمل ما هم بشرحه. تفضل كنت تقول.

أكمل ارتشاف قهوته، ثم قال: لنأخذ قضية الطائفية دون الخوض في الأسباب، في القديم كانت هناك مودة وصداقات بين السنة والشيعة مثلا أكثر مما هي عليه اليوم. وإذا أردنا الحديث عن الأعراق، فقد كان المجتمع لا يحفل بالفروق التي كانت تتجلى بسبب اختلاف الأعراق المكونة له، واليوم هو ليس كذلك. خذ على سبيل المثال، الزواج كان أكثر انتشاراً حتى إن المرأة تغادر بلدتها لتذهب مع من تزوجت. ولا تكد اليوم تغادر الحي سوى للقبر!

قلت: لكن قضية “مواخيذنا” موجودة مذ أزل!
تهلل وجه سعد، ثم قال: صحيح! والتفت نحوه: أنت وش تبي توصله؟

“يا صاحباي، نحن نتحدث فقط سعياً لنفهم هذا المارد. ونعم يا رائد، ما ذكرت موجود منذ القدم والحالات الفردية موجودة في قبيلة ما، في فخذ ما، في بيت ما.. لكنها تزيد لتمتد للبقية أو هي تنحسر بفعل عوامل أخرى وأنا أراها اليوم ممتدة حتى أصبحت سمة عامة. اليوم هناك محاكم تفتيش إن جاز التعبير ونوع من الإقصاء، وأحكامٌ عامة تطلقها الأغلبية لموضوع معين. لاحظا أن الغالبية هذه ليست محددة، لكنها تتشكل وتأخذ سمة العامة ضد الأقلية في رأي ما. وليست السمة العامة شيئاً ضاراً أو ذو طبيعة شر. تذكرا، نحن نتحدث عن الاختلاف وردة فعل هذا المارد لما هو مختلف عنه.

سعد: “هذا المارد المفروض ترده بفانوسه وتتعوذ من إبليس.” ضحكت كما ضحك هو.

قلت: لكنك وبحسب ما قلت فإن الكل يمثل بعضاً من الأغلبية وبعضاً من الأقلية لذا لا توجد فرقة مستضعفة نسومها الإقصاء.

قال منتشياً: آه نعم! صدقت وماردنا كذلك.

المارد كما وصف بطلنا.

ألقى برأسه للوراء، وأسند ظهره لكرسيه وقد ترك لعظامه أن تكون جزء من هذا الكرسي فأخذ جسده ملامح الكرسي في جلسته.

يخيل لي هذا المجتمع بصورة المارد له ثلاث رؤوس: فرأس صامت، وآخر صاخب معارض وآخر يماثله في الصخب ويعارضه في الاتجاه فهو موافق. له ملايين الأعين تراقب بعضها البعض كما تراقب ما حولها، وآلاف الألسن تهمس بكل صغيرة وكبيرة. كل حدث عام، وكل أمر حدث وراء الجدران. هذا المارد يرقب كل صغيرة لكنه تارة يصمت إزاء أمور، ويعارض ويفور، وأحياناً يوافق بكل سرور. هو ضخم إلى الحد الذي لا ترى منه سوى ما وخزته منه، كأن ترى ردة فعله تجاه قضية ما، لكن هذا الرأي الذي تشكل هو ما تراه منه فقط. وعلى الرغم من ضخامته فما أن تقبض على معصمه أو تمسك بطرف ثوبه حتى يتفرق ويتبخر أفراداً. تتلاشى معه هذه القوانين إلى آراء، ويصبح الأمر فردياً بعدما كدت تحلف أن هذا الرأي قناعة مجتمع!

هذا المارد يتحرك بين الحين والآخر لكنه يميل للجلوس والتأمل فقط. يرقب في صبر، لا يمل، ولا أظنه يدري ما الذي ينتظره، لكنه يحس بأن شيئاً ما سيحدث، أو أن شخصاً ما سيُقبل لذا تراه دائم الترقب، يحلل كل صغيرة لأن النظرة حتى النظرة من شخص ذو أهمية بالنسبة للمارد علامات تمهد لما بعدها. قد لا يحدث شيء إطلاقاً، لكن المارد لا يريد أن يفكر بهذا على الإطلاق خوفاً من أن يكون انتظاره مجرد عبث.

نهاية الجلسة

“سعد، أعلم بكمية المواد التي تأخذها هذا الفصل الدراسي ولا أريد أن أشغلك أكثر من هذا.” هكذا اسدلت ستار جلستنا إذ تأخر الوقت، والحق أني كنت على استعداد لسماع هذا الرجل لمئة عام أخرى كما قال غابرييل غارسيا في إحدى رواياته.

“دعني أصحبك للفندق.” قال محدثنا، “فنحن على نفس السكة أنا وإياك.”

آه، نستقل القطار إذاً؟ حسناً لأني لا أريد أن تغير من وجهتك لتوصلني.

ابتسم ثم قال: لا تقلق! لا أظن إني قادر على تغيير وجهتي وإن أردت ذلك.

تدثرنا معاطفنا واتجهنا نحو المحطة، كانت السماء ملبدة بغيوم حمراء والأرض مبللة وحمراء بفعل انعاس أضواء السيارات ومصابيحها، كأنها برك من الدماء. هبطنا إلى باطن الأرض، كانت الإضاءة صفراء كئيبة ومن ينتظر القطار في ملل يرقب ساعته، يحدث صاحبه، أو يعبث في جواله. لم يلفت نظره سوى رجل يقرأ، مرةً أخرى لاحظته وهو يحاول قراءة عنوان الكتاب. أقبل القطار، يتقدمه ضوء المصباح في مقدمته والجلبة التي يحدثها الحديد من حوله. ركبنا المقطورة التي كانت شبه فارغة، رجل نائم. شاب يستمع للموسيقى تنبعث في صخب من سماعاته، امرأة متعبة تتفحص الجميع من حولها وأنا بجنب صاحبي الذي اختار أن يميل برأسه للأسفل وقد عقد أصابعه، وكانت عيناي تتفحصان الخريطة والدعايات المعلقة أعلى الصف المقابل لنا من الكراسي. كنا جميعاً في عوالمنا الخاصة. لم يتحدث حتى دخلنا في نفق،

بعد عدة دقائق ولج القطار من النفق ونهض صاحبي بعد أن أعلن سائق القطار اسم المحطة القادمة، وقد كنت انظر إليه وأستعيد ما قال، لم أرد أن أهمل حرفاً. نهضت معه أردت أن أقول شيئاً فقال: “أما أنت فستكمل طريقك، وأما أنا فهنا محطتي. سررت بالتعرف عليك، حظا موفقاً وعودة آمنة لبلدك.”

مد يده ليصافحني، كانت مصافحته أشبه بمصافحة عسكري. وضع يده في جيوب معطفه بعدها وخرج من الباب انتظر بالخارج ليشيعني حتى إذا أُوصد الباب حياني واضعاً سبابته ووسطى يده اليمنى إلى صدغه. ابتسمت في وجهه، يعزلني لوح الزجاج وصورتي التي انعكست بيني وبينه. كان أكثر ذكاءً من أن ينسى أن يبادلني معلومات الاتصال به، وكنت أكثر يقظة من أن أغفل عن هذا. لكننا وكأننا اتفقنا ضمناً أن خطوط سيرنا كما التقت، فقد آن لها أن تفترق.

صوت من ظلمات الأرض.

اليوم وبعد مضي عدة سنوات، لازلت أذكر صوته وما قال في ظلمة النفق، يراودني ما قال مثل حلم مروع بين الحين والآخر. كان الأمر شبيهاً باستراق السمع، لأنه لم يكن ينظر إلي، كان خجلاً لكنه كان يقول كل كلمة بمرارة.

قال وصوت القطار يقع بثقله على قضبان سكة الحديد، يقطّع مقاله بانتظام: هل سبق لك أن لعبت بلغز تركيب القطع؟ تلك القطع التي تأتي بأشكال مسبقة لتتحد وتترابط بنظائرها ثم تشكل صورة ما؟ عمل فني، أو لوحة عالمية؟ أهم القطع تلك التي تكمن في النصف، بالرغم من أنها جميعاً مهمة، لكنها تقل أهميةً ما بعدت عن مركز الصورة واقتربت من الأطراف. تماماً كالأفراد في المجتمع. أنا قطعة من ذاكم اللغز، شهد الله أني بحثت عن الفراغ الذي أسدّه والمكان الذي أتمكن من إكمال نقصه، فلم أجد مكاناً يستطيع أن يتقبلني. أنا القطعة التي لم تجد موقعها، حتى تيقنت أن الخطأ في، والعيب مني. رضيت أن أحطم أضلاعي، حتى أتمكن من أكون جزءً من كل. ووا أسفي إذ رأيت.. فرأيت الصورة تكتمل بدوني. أردت أن أكون مختلفاً، فلم يقبلوا إلا أن يجعلوا مني مجرد “مخ..تلف”

هل تبقي على سر؟ أنا على استعداد للموت دفاعاً عن وطني في أي لحظة، لكني لا أستطيع العيش اليوم من أجله. لهذا أردت أن أكون بعيداً،جزء لا ينتمي لكل، قطعة مهملة لا تسد مكاناً أو تكمل نقصاً.

أشقى الرجال يا عزيزي من حَمَلَ ذكرى امرأة، وأنا أحمل معي ذكرى وطن!

تمت.

بعد القراءة: لا تسأل إن كانت هذه الشخصية حقيقية أم هي من نسج الخيال.

FacebookTwitterGoogle+WhatsApp
  1. alyahooadezny

    2013/04/18 - 05:22 م

    very good

  2. alyahooadezny

    2013/04/18 - 06:13 م

    هلا بأحب أبي شباب قطر الشقيقة
    كل التحيه من ارض فلسطين

  3. مختلف مخ تلف « خُوَيْطِرَاتِي

    2013/04/20 - 09:59 م

    […] on 20/04/2013 Reply Tags: اقتباسات ( 195 )    مختلف… مخ.تلفرائد العمادي […]

أضف تعليقك

*

أهم التدوينات