ملحمة: عذراً منيرة، والدك أضاع مستقبلك.

تمهيد: أنا لا أفكر قبل قهوة الصباح.

دخلت المكتب، وضعت القهوة بطريقة شعائرية، يغلفني الصمت وتتسرب أشعة الشمس من خلال استار الغبار (منتهى الشاعرية.) كنت على وشك أن ارتشف القهوة حين دخلت علي سكرتيرة المدير “وقع..هان، صباح الخير”

وضعت الكوب جانباً، كانت زميلة العمل مضطربة ثم سألتني: سجلت منيرة الله يحفظها في المدرسة؟

ابتسمت وأجبت: لا، لا بعد هي تبلغ سنتين فقط.

أنا لا أفقه شعوذة العصر التي تسمى NLP ولا أحسن قراءة الكلمات فكيف بإيحاءات لغة الجسد؟ لكن النظرة التي رمقتني بها هذه السيدة كانت من ضمن:تباً لك من أب، وتباً لهكذا تربية!

قلت وأنا أضحك بنفاق، تعلمون أي ضحكة أعني؟ إنها الضحكة المؤسساتية وفي العرف تتبع ب “الله يقطع سوالفك يا عمي الشيخ..” : يا أم فلان، أتفهم حاجة الأبناء إلى العلم، وأجزم بأنه أغلى ما يعطيه الآباء للأبناء، لكن هذه المرحلة من العمر شديدة الأهمية فمنها يتعلم الطفل المشاعر عن طريق التواصل مع والديه، والتحصيل العاطفي أهم من التحصيل العلمي لأننا نربي في النهاية إنسان يكبر ويمر بتحديات تتعلق بالمشاعر أكثر من المسائل الرياضية والتمارين العقلية. صدقاً أقول يا سيدتي! إن هذه الذكريات التي يجمعها الوالدان بكل نهم، في هذه المرحلة من عمر الطفل هي أدفء الذكريات في برد الشيخوخة. نعم… هنا تكمن المأساة نحن نخرج آلات للمجتمع في حين نحن في أمس الحاجة..

نظرت إلي ببرود : وقعت؟

أكملت بنبرة المنهزم :”بشر..نحن في أمس الحاجة للبشر” نعم يا سادة لقد طاح وجهي ولم أشرب قهوتي بعد.

ثم تلعثمت واستدركت: إن شاء الله.. إن شاء الله تفضلي وقعت.

خرجت، عاد الصمت إلى الغرفة وعادت السكينة إلى نفسي.. ابتسمت في رضاً تام عن خطبتي العصماء التي – والحق يقال – كانت ستدمع لها عيون الفاهمين، والعارفين.. نعم لن ألومها، سيلزمها الكثير لفهم ما قلت. أين كنت؟ نعم، نظرت إلى القهوة، هذا اللون الأسود وهذه الرائحة وتلك الحرارة، لا أعتقد أن شيئاً يأتي بنفعٍ على الجسد من هذا الخليط، لكن كذلك هي الحياة.

انتبهت وما أن رفعت الكوب حتى ولج المكتب موظف آخر، وضعت الكوب في عصبية واضحة. ألقى السلام علي، رددت التحية ثم قاطعته قبل أن يتكلم، وأنا أضم أصابعي الخمس وأهز يدي في إشارة إلى أن يصبر، رفعت السماعة، فكان يسمع زميلي نصف الحوار من جهتي على هذا النحو:

ألو السلام عليكم، صبحك الله بالخير والسرور يا أمي.

….

أمي راضية علي؟

……

لا ما حلمت في شي يا أمي.

……

والله العظيم ما شفت شي.

….

بنتك منيرة بألف خير.

…..

والله العظيم ما فيها شي.

……

الله يديم هذه الدعوات الطيبة ولا يحرمني منك يا أمي.

في أمان الله أمي.

انطلق زميلي.. “ربنا يخلي لك الست الوالدة، أستاز رائد.” قاطعته مرة أخرى بنفس الإشارة. وسمع حواراً آخر على هذا النحو تماماً مع والدي الذي أكد لي رضاه السرمدي دنيا وآخرة. أغلقت السماعة، نظرت في وجه زميلي.. غريبة!

وما هو الغريب يا أستاز رائد؟

أبي وأمي راضيان عني، فلم تقاطع قهوتي في الصباح؟ يمكن أن أكون ظلمت أحدهم؟ مع أني لا أعنف الخادمة حتى إن التهمت هي وجبة صغيرتي!

ربنا يسامحك يا أستاز رائد.

يا أخي مليون مرة قلت لك ألا تضيف هذا اللقب ولا أي لقب قبل إسمي، أمقت الألقاب التي يضيفها البشر لأنفسهم وكأن الإسم وحده غير كاف للتعريف!

طيب يا أخي أناعايز إجازة بكره.

إن شاء الله..

أصل البنت- ربنا يخليلك منيرة- عندها مقابلة عشان المدرسة.

م..قا..بلة؟

آه مقابلة.

كم عمر بنتك الله يخليها لك؟

ثلاث سنين..

أخذت أقلم أظافري قضماً في عصبية بالغة، تمالكت نفسي رفعت رأسي وابتسمت في أسلوب خطابي وصوت جهوري: أتفهم حاجة الأبناء إلى العلم، وأجزم بأنه أغلى ما يعطيه الآباء للأبناء، لكن هذه المرحلة من العمر شديدة الأهمية فمنها يتعلم الطفل المشاعر عن طريق التواصل مع والديه..

قاطعني: كلام كبير جداً بس يعني حضرتك موافق على الإجازة؟

تنهدت في أسى: نعم موافق.

القهوة فترت..القهوة فترت، لو أنها صارت باردة لما تذمرت أما أن تكون فاترة، بربكم لست على متن طائرة كي أشرب قهوة فاترة! إلى الجحيم بالخطب والتعليم.

الثالثة ثابتة: ولو كان سهماً واحداً لاتقيته_____ ولكنه سهمٌ وثان وثالث!

أمضيت بقية اليوم وأنا بين اليقظة والمنام والشاي. جمعني لقاء بموظفة أخرى تكلمت عن تعليم الأبناء، وإذ بها تسأل: ابنتك من مواليد أي شهر؟

قلت وكأني رجل اسلم عقله قبل أن يسلم كفه لمن يدعي قراءة الطالع والبخت ومعرفة الغيب: شهر ديسمبر.

ولو يا رائد! حرام إجت بهيك شهر!

أنا كنت واثق أن في شي غلط! (قلبي قارصني) طيب أنا من مواليد شهر مارس أثمة أمل؟

نظرت إلي قائلة في إشفاق: سيفوتها عام، عام! لأن الالتحاق بالمدارس لا يكون إلا في شهر سبتمبر، وعليه لن تتمكن من الالتحاق بالصفوف هذا العام وعليها أن تنتظر حتى العام المقبل.

سحقاً.. البنت بتعنس!

شو؟

لا شيء.. ذهبت للمكتب عيناي اغرورقتا بالدموع.. بحثت عن الهاتف.

ألو..أم منيرة إحنا أبوين فاشلين.

وشرحت لها كل ما حل بي، فقالت في كل برود: من صجك؟ بنتك عمرها سنتين!

سينتهي بها المطاف لأن توظف لأنها قطرية فقط، لا لرجاحة عقلها. لن يحتاج أحد لأن تدلي رأيها في مسألة مصيرية تقرر مستقبل الجهة التي تعمل بها، بل لن يكلف أحدهم عناء قراءة تقرير منها، ستكون عالة على المؤسسة التي تلتحق بها، مجرد “ديكور” ولا أريد هذا لأي من ابنائي. ينبغي لنا أن نسلحها بالعلم من الآن.

انتهت المكالمة لكن وساوسي لم تنته بعد إذ ظلت شارداً مفهياً محطماً بقية اليوم، لقد فشلت في تربية ابنتي ولمّا ابدأ بعد! أواه حين تبلغ الرشد فتسألني: يا ابتي بخلت علي بالعلم؟ بم أجيبها حين ترى زميلاتها يتفوقن عليها في المدرسة وفي الجامعة ويترقين في العمل وهي المزهرية التي توضع على منضدة “التــقطير؟” أتودون معرفة مدى الأسى الذي اعتصر قلبي آنذاك؟ وضعت العقال جانبا، ظللت بالغترة وأنا أوقع المعاملات وأقرأ بقية المراسلات وأنا أرفع صوتي بين الحين والآخر ب:لا حول ولا قوة إلا بالله ولا إله إلا الله..كما يفعل كبار السن بعد صلاة العصر!

بحثت في عدة مواقع واستطيع أن أضع المدارس كلها في صنفين لا ثالث لهما: إما أخلاق بلا علم، أو علم بلا أخلاق. أعني بالأخلاق التركيز على الجانب الديني، وبالعلم التعليم الذي يحفز ذهن الطفل لا أن يلقنه تلقيناً.

يقال أن العقل الباطن أقوى من الذهن الحاضر.. إما أن هذا حقيقة أو أن بائع الألعاب الهندي قرأ كتاب “السر” فبعث برسالة إلى الكون مفادها أنه يريد زبوناً لينصب عليه، فكنت أنا القطري المفهي المكلوم ..

دخلت لا ألوي على شيء: رفيق!

انتفض من كرسيه: أيوا! ترك مكانه خلف الطاولة أقبل علي وقال وهو ينظر إلي بكل شاعرية وقال برقة: سنو في مدير؟

فاست فورورد.. فاست فورورد.. بوز!

وضعت اللوحة البيضاء، وألأرقام المغناطيسية وعدة وسائل تعليم.. ومنيرة تطير فرحاً بكل جديد، وزوجتي تتصل بوالدتها: عندكم ماء مقري عليه؟

تعالي يا منيرة احتضنتها، سينقذك والدك من براثن الجهل.. لا لن يجعلوا منك صورةً فقط، أبداً!

بابا..

نعم. نعم يا روح بابا، لا وقت للحزن الآن. علينا بالجد والاجتهاد يا صغيرتي فلا وقت لدينا للعب

هذا صفر

سفر؟

نعم صفر..هذا ما لن تكونيه أبداً إن شاء الله.

هذا واحد.

واحد.

نعم واحد، هذا المركز الذي ستحصلين عليه دوماً بإذن الله.

هذا اثنين.

اتنين.

هذا عزاء أول الخاسرين هذا ما لن تقنعي به أبداً.

والآن قولي ورائي..

ورايي.

لا لا! قولي: ثلاثة..

ثلاثة.

نعم، ثلاثة هذه عدد المحاولات التي ستقومين بها في حال عدم اتقانك لأي شيء.

والآن حبيبتي.. قولي معاي: رؤية 2030 لكي نصدمهم جميعاً في المقابلة!

قولي..

منيرة: ثلاثين..

ثم إنها ضاقت ذرعاً بي، وأخذت تلعب بالدمى.. وضعت يدي على قلبي، قلب الأب الذي يتمزق وهو يتخيل ابنته تجيب على اسئلة المقابلة. ما عساها تجيب حين تلقي اللجنة سؤالاً مثل:

عددي أهم انجازاتك في الثلاث سنوات الماضية؟

إجابة منيرة: تعلمت عدة كلمات، وأن ابحث عن توم وجيري في اليوتيوب..

اذكري مثالين على روح القيادة، وكيف استطعتي التأثير على من حولك؟

بكيت (من قمة راسي)، وصرخت (تبين حلاوه) فما كان من والدي إلا أن اعطاني السكاكر!

أين ترين نفسك في الخمس سنين المقبلة؟

في الابتدائية..

وقع القلم من يدي، ووقعت كل أحلامي معه.

باب: ما ندم من استخار الخالق، واستشار المخلوق.

جلست إلى من لديه أبناء في عدة مراحل، بعد عدة أيام سألته: أي المدارس ألحق بها فلذة كبدي؟

أجاب: هل تريد أحسن تعليم؟

قلت في عجب: إمبوسبل! ويحك؟ أهناك فرق بين مدرسة وأخرى!

نفث دخان سيجارته قائلاً: صح النوم!

نعم أريد أحسن مدرسة.

قال: وهل تدفع جهة عملك هذا؟ لأنه في حين عدم تلقيك هذا المبلغ من جهة عملك تستطيع التقديم على كبونات التعليم؟ ولكن المدرسة التي ذكرتها لك يلزمها عدة واسطات، لأن هناك لائحة انتظار!

انتظار؟ هل بلغ عدد القطريين هذا الحد؟

قال: لا، لكن أبناء الأجانب ينتظرون أيضاً وهي قائمة طويلة!

قلت: يا سيدي، أولسنا مقدمين؟ هم لديهم الخيار بأن يبقوا أطفالهم في أوطانهم، ليحصلوا على تعليم بها، لكن من أين لنا مدارس أخرى، هذا وطننا الوحيد.

أجاب: بربك! أتريد أن تفرق بين الموظف وأهله؟

لا، والله لا أريد هذا ووجود العائلات خير من وجود الأفراد اقتصادياً واجتماعياً.. لكن لماذا أصبح التعليم تعقيداً؟

ابحث عن واسطة من الآن، وقد يبلغ ما تدفعه لها ستون ألف ريال قطري في كل عام.

استطيع التحمل لمدة خمس سنين، ونزفها لابن خالتها ويتحمل نفقتها!

ولا زلت أبحث عن مدرسة.

بعيداً عن الضحك:

الأخوة القائمين على التعليم،

كنت ولا أزال أخاف من التعليم، كما كان يفر السلف من القضاء. ذاك وأن خطأ أي مهنة محدود في فئة ومحصور في زمن وخطأ التعليم ب”جيل!” أطفالنا ومستقبل البلد في أعناقكم فالله الله.

FacebookTwitterGoogle+WhatsApp
  1. أم عزان

    2013/03/31 - 02:39 ص

    وصلت لقناعة ان كل مدرسة كانت لها ايجابيتها وسلبياتها .. وضعت نقاط معينة ابحث عنها وتوكلت على الله ..اصلاً عزان سهل المهمة أصر اني اسجله في مدرسة ابن خالته وهكذا اخترت المدرسة :)

  2. محمد عزت

    2013/04/05 - 10:02 م

    رجاء حد يشوف الموقع عشان مش عارف اسجل السيرة الذاتية وشكراً

أضف تعليقك

*

أهم التدوينات