صبنجه، حيث يضع الوقت أحماله.

التاريخ: 15 يونيو 2012

الكثير يغفل عن حقيقة تطور حساب الوقت على النحو الذي صار إليه اليوم، أعني إلى الثوابت والمسلمات التي تقتضي بأن أن يبتدأ اليوم بعد منتصف الليل لا عند الشروق أو الساعة الثانية عشر ظهراً، وأن يقسم اليوم إلى أربعة وعشرين ساعة ثم يوحد كل هذا في أرجاء المعمورة بلا أجهزة إلكترونية، أو حواسب أو شبكة إنترنت! وكيف أن الإنسان اكتفى في باديء الأمر بعقرب الساعة، ثم ضاق بالساعات فأصبح يبحث عن وقتاً أدق فجاء بعقرب الدقائق، ثم لم يكتف بهذا فراح يبحث عن وقت أدق حتى جاء بعقرب الثواني، واليوم تدفع الشركات العالمية أجر العاملات في المصانع الصينية بجزء من مائة في الثانية! بل أن بعض الفيزيائيين المرموقين من أمثال ستيفن هوكنغ يرون أن قياس المتر باستخدام الوقت (سرعة الضوء) أدق من قياسه بوحدة الطول! وخير من ألف في هذا الباب هو الدكتور روبرت ليفاين في كتابه “جغرافيا الوقت.” هذا الضرب من الحساب – أي الجزء من الثانية-  نافع جداً في المدن، الكبيرة منها والمكتظة بالبشر حيث تكون الحركة سريعة، حيث تحسب الدقائق التي تتكلمها في الهاتف المحمول، وتهرع بخطواتك أثناء عبورك الشارع، لأن الإشارة تعلمك أن الوقت المتاح لك لعبوره على وشك الانتهاء. لكن في صبنجه، حيث جلست احتسي الشاي على طاولة قد عُلقت بعنق شجرة باسقة عظيمة الظل، لم يكن يجدي هذا الحساب للوقت في ذاكم المكان. كان حساب الوقت مختلفاً، إذ لا حاجة لك بعقارب الساعة أو ومضاتها فالثواني تجري كخرير الجدول الذي يجري من تحتك، وحفيف الأشجار يعلن لك مضي دقيقة وأخرى، ثم تسمع ضحكاً من بعيد وكأن إخوانك من البشر يعلنون مضي ساعة من العمر.

كان الوقت يمضي دون عجل، كان يقف بين الحين والآخر ليسمع بعضاً من أحاديثنا، كان يجلس منهكاً من الأتيان على كل شيء فلا حديد ينبغي له أن يصدأ ولا آلة تعطب، ولا بيوت تهجر، ولا مدن تخرب، ولا أفواج من البشر جلها ينسى وبعضها يحفظ. لاشيء من ذلك إطلاقاً. ورويداً رويداً،تعتاد المشاهد من حولك، فلا تجد عينيك تجولان بحثاً عن شيء، ترتخي أعصابك، وتقل حركتك بفعل سكون الأشياء من حولك. وحدها ظلال الأشياء كانت تتحرك فتمتد وكأنها أوتاد تُضرب لخيمة الليل. كل هذا تألفه، والإنسان لا ينشغل بالبحث عما يشغله عن نفسه، لكننا اليوم أبعد ما نكون من البشر فأخذت أبحث عما أعبث عنه فلم أجد سوى الذكريات. ذكريات كنت أعدها محفوظة أٌهمِلت، أسماء لا أعلم لها وجهاً، ووجوه أجهل لها إسماً.

أذكر أحد الطلاب الذين عرفتهم أثناء دراستي في الولايات المتحدة، كان قساً نيجيرياً – موتمبو هذا إسمه أو أني أخلط لا أدري ولا يهم هذا- أذكر أنه وقف بجانبي وأنا أنظر إلى سيارة فيراري سأل: “ما إسم هذه السيارة؟”

بربك موتمبو! ألا تعرف هذا الشعار؟ الحصان؟ فيراري..فيراري. ولا تقل لي بأنها ليست سوى شيء مادي..

“لا.. – ضحك –  هي جميلة! لكن أنا على يقين أن الوقت سيعريها من جمالها واستغرب كيف سيفعل ذلك! الوقت يا عزيزي له فعل عجيب في هذا العالم، ولا أحسب الأنسان بكل علمه يصل إلى أبعد من أن يحسبه فقط ولن يتحكم به.”

موتمبو.. ما الذي يدعوني لتذكره الآن؟ وترى..ما الذي حل به؟

هكذا كانت الذكريات تبعث فجأة بلا ترتيب زمني، ولا وضوح ولا نسق محدد. لشدة ما أهملت تنظيف هذا المكان! نفسي.. متى كانت آخر مرة اعتنيت بها؟ متى كانت آخر مرة زرت فيها هذا الجانب ففحصت وتدبرت، وأمعنت ونظرت، ورأيت وتفكرت، وتسائلت وأجبت؟ بين لي أحد الخبراء ذات يوم حقيقة بعد الانتهاء من اختبار قمت به، فقال أنت تحب جمع الأشياء فهل تجد لهذا سلوكاً في الواقع؟ قلت: نعم أنا أحفظ أبيات شعر قد لا أجد لها مناسبة لأتمثل بها، وأدون أغرب معلومات قد تمر بها، وأحفظ أعجب تواريخ صادفتها لا لشيء سوى أني قد احتاج لهذا كله ذات يوم.

وهل تجد لهذا مبررا؟ “عندما تعلم أنك ذاهب لمكان محدد فأنت تأخذ حاجتك، وما يكفيك لكن حين تعلم أنك لا تعود أبداً ولا تدري إلى أين تمضي حتماً، فأي شيء سوى أن تقبض على ما تجد مما غلى سعره وخف حمله عله يعود بالنفع عليك!” بهذا أجبت حينها.

أعود لنفسي مرةً أخرى، أجدها تحفظ الود لمن نساه، وترعى عهوداً نكثها من أبرمها، وتريد تحقيق آمال وأحلام أهملتها الهمة وخانتها الأولويات. في وسط هذا الركام، ومن بين هذا الحطام أعاين ذكريات الصبا حيث كان الهم أبسط (كيف أقضي يومي ومع من؟) شيء لاحظته، هو أن بعدي عن الذكرى نفسها حجب المشاعر التي اقترنت بها، فلا الألم يوجع بعد ولا اللذة بقت. كلها حوادث أحفظها، ووقائع مررت بها.   

“رائد..”

انتبهت. نظرت، لكن كنت أرى كل الذكريات تحوم وتختفي من حولها تماما كالدخان وبقيت هي. بالرغم من وحشة الطريق وبعده، ما كنت لاختار طريقاً آخر يؤدي بي إلى غير هذه الحقيقة.  

“وين راح بالك؟”

ابتسمت، قلت: يذكرني السؤال بقول مكسيم غوركي من أن المرأة قد تسأل الرجل فيم يفكر فيه؟ لكن هذا السؤال عصي الإجابة، لأن الأزمنة تختلط في ذهنك، والذكريات والأحلام والمخاوف والأفراح والأتراح وكل المشاعر تتمازج فكيف لك بالجواب؟ وعليه، فإن المرأة لا تريد منك حقيقةً سوى أن تنشغل بها عوضاً عما تفكر به. هيا بنا إلى إسطانبول!  

عدت إلى صخب المدينة وإلى ضوضاء الحياة حيث الوقت يحسب بأجزاء الثانية وكأني بالوقت يعود معي على عجل، ليسلب الأرواح، ويهدم البنايات. نعم..أنا والوقت، كلانا مشغولان في إسطانبول.

FacebookTwitterGoogle+WhatsApp
  1. أم عزان

    2013/03/12 - 06:19 ص

    الوقت والذكريات والجلوس مع الذات من أجمل ما يمكن ان يجتمع في خاطرة .. عدت بقوة :)

  2. Khaled Osman

    2013/03/27 - 01:29 م

    u r one of a kind I like how u think, and I’m going to follow ur writings
    so keep up the good work

أضف تعليقك

*

أهم التدوينات