حين تكثر المشاهد وتغيب النصوص.

 المشهد الأول:

كنت في الصف السادس أو الخامس الإبتدائي حقيقة لا يهم أي من ذلك، أذكر أنها كانت ليلة الامتحان، وقد تقرر أن نقرأ قصة “قطر الندى” وكانت أول قراءة جادة لي، استمتعت بها كثيراً وأنا أتعرف على أحمد بن طالون وكيف أن بني العباس قدروا على مملكته بالسلم لا بالحرب، لم أجد صعوبة في تذكر أي من أدق التفاصيل، وقد تطوعت خالتي بأن تختبرني فتسألني بعض من الاسئلة ولهول ما اكتشفت أن ثلاث إجابات فقط كانت صحيحة من جملة عدة أسئلة!

كنت مشوشاً حينها، أنا واثق مما أقول، أكثر ممن تحمل الكتاب نفسه، بل كنت أدلها على الصفحات المعنية! حتى ذهبت بي إلى الخارج فقالت: لا عليك، كانت جميع إجابتك صحيحة لكن خشيت عليك من فلانة فقد اشتهرت بالحسد، وذكرت امرأة كانت تزور جدتي حينها. “عليك دائماً بأن تخشى الحسد، وأن تتعوذ منه صباح مساء.”

سألت بكل براءة: يعني هي تحب قصة قطر الندى؟ أتريد قراءة القصة؟ سأعطيها الكتاب! بعد الامتحان..

ضحكت: لا لن تزيد على أن تجعل منه سفرة لأطباق طعامها، حدها سوالف الفريج! وشسوت فلانة ومن انخطبت ومن تطلقت. الله يحفظك – واصلت ضحكها – لو أنك قلت لها “قطر الندى” لحسبتها حلوى من الشام!

 أجبت: إذاً لماذا تحسدني على شيء ليست تريده؟

تنهدت: يا ابن أختي، لا زلت صغيراً لتفهم أن الكثير من البشر لا يستطيعون النجاح ويعجزون عن أسبابه ويغتمون لمن أراده. هي لا تريد كتابك، ولا تأبه لا بقطر الندى ولا بأبيها لكنها ستتمنى ألا تحفظ أنت أي من هذا على هذا النحو من الدقة!

قلت: فهمت! يعني الحاسد لا ينبغي أن يرى مني شيئاً ؟ يعني علي ألا أفصح عما أريد لأن الحاسد قد يكون موجوداً بيننا؟

قاطعتني: ليس بالضرورة أن يراك، قد يسمع بخبرك..ثم أنها استدركت قائلة: لا عليك الآن. غداً، حين تكبر وتخالط البشر ستفهم.

المشهد الثاني:

أقام والدي وليمة ذات يوم فكان من جملة المدعويين رجل ، أخذ يسهب ويطنب، “ويخور – كما نقول – وينجب”، والقوم ضاقوا ذرعاً بما يقول وكأنهم استحوا منه، لكبر سنه. لكن، لم يمنعني ذلك حينها أن أقول له: يا عم كل ما قلت غلط في غلط! حين أخذ يتحدث عن أشياء لا يقبلها عقل صغير مثلي! فكيف بالكبار؟ انفجر القوم ضحكاً، امتقع وجه والدي الذي طلب مني أن أقبل رأس هذا الخرف وأن اعتذر منه، والذي أشاح أول الأمر بوجهه فزدت الطين بلة حين قلت لوالدي: معصب، لا يريد مني أن أقترب منه! غضب والدي وأمرني أن انصرف ففعلت. ثم راح يقص على والدتي بعدها، ولم يخف ابتسامته ، لكنه قال: حتى وإن لم يعجبك ما قال الرجل، فهو أكبر منك وينبغي لك ألا تحرجه كما فعلت!

قلت: يعني لأن عمره أكبر من عمري؟ يعني رقم أكبر من رقم؟

فأجاب: نعم، هذا أدب و سنع.

اليوم وأنا استرجع كل هذا لا يسعني إلا قول: ما أجمل أن يكون والدك قمة الهرم في عالمك، لكننا نكبر فنخرج من مملكة آبائنا إلى ممالك غيرهم. هذا ما أراد أن يخبرني والدي حينها، وأن الأدب والسنع قد لا يتفق مع ما أظن أحياناً. لكن هو الضامن بعدم الخروج عن المألوف.   

المشهد الثالث:

حين كنت على وشك الزواج، وأثناء فترة الملكة – كتب الكتاب – قيل لي مراراً: إياك أن تبوح بكل ما تكنه من ود وحب..إثقل، أركز. لا تبح بكل ما في خاطرك، تقل هيبتك…إلخ.

وكنت استغرب أليس في هذا نوع من الرتابة والسأم إن سلمنا بأن جميع النفوس البشرية تحذو الأمر ذاته؟ إن سلمنا بأن نفسي تصبر عن كبت ما أريد قوله؟ إن سلمنا بأنها “هي” لا تريد سماع أي من ذلك، وأنها قد تظن بي الظنون إن أنا تحدثت بما أحس؟

أليست الحياة أقصر من أن تضيع في قول مالا نريد، وكتمان ما نريد؟

==

مشهد النهاية:

اليوم أنا نتاج تلك المشاهد وغيرها الكثير. غابت تفاصيها، وأبطالها، وبقيت آثارها. نشأ عن ذلك كله صوتان: صوت بداخلي، أسمعه كان بالأمس هو صوتي الذي أصدح به، كان هو الذي ينطق بالأجابة الصحيحة، هو الذي لا يخجل من قول الحق مما يتورع الناس من قوله بإسم “السنع”، والذوق العام. كان يلهج بما يحس، كان الناطق الرسمي لي، “أنا”..ذاكم الفرد الذي أذابته المشاهد. لا يأبه بألعاب صبيانية وقواعد وضعناها لا يعلم إلا الله من سنها، فيمَ ولمَ؟ اليوم أصبح هذا الصوت وساوس بداخلي، تنازعني بين الفترة والأخرى يشوبها التردد، مقيدة بألف حساب قبل أن تنطق، وأغلب هذه الأفكار لا تجد طريقها إلى الخارج.   

أما الصوت الثاني والجديد، فهو لا يأبه بي، لا يسمع ما أود قوله. يكتم الإجابات خشية الحسد، سوء الظن، أو حتى التواضع أحياناً، يخشى العواقب، ويقيم الحسابات. صوت لا يخرج عن معزوفة مألوفة، ونسق متعارف عليه. لا أظنه نفاقاً، مجرد آداب عامة ينبغي مراعاتها، وخطوط حمراء لا ينبغي تعديها.  

على أن هاجساً واحداً لا زال يؤرقني، هل كنت وحدي من يسمع ذاكم الصوت بداخلي؟ أم أن كل من ساءه هذا الصوت بما يحمله من صدق وصواب يسمعه أيضاً من اتخذ من الحسد، والذوق العام، والواجب ذريعة وسبباً بألا يسمع إلا ما يروق له؟

لا أدري، ولعلكم تحملون الإجابة…

FacebookTwitterGoogle+WhatsApp
  1. Alanoud

    2012/10/14 - 12:10 م

    You are the combonation of all these scenes. I like how you took it from the past till today. You are creative & I sensed that you were responsible by not fighting the people who said things you didn’t believe in or understand the purpose behind what they told you.
    You decided to come out later. Satisfying them and satisfying you..

  2. Me

    2012/10/15 - 01:52 م

    أعجبني ما كتبته سابقا ، هذه المرة مشاعرك كثيفة فطغى الإحساس على الكلمة ، فهمت احياناً و احياناً لم افهم ،

  3. Amal AlSuwaidi

    2012/11/02 - 08:06 م

    التجارب تصقلنا. والمشاهد تؤكد ذلك. كل ما سبق هو نضج يتخّذ طريقه وهذا هو الأهم. كل الأسئلة التي سبق وتسائلنا عنها لها إجابات. إنها تتأخر لكنها تأتي.

أضف تعليقك

*

أهم التدوينات