هناك وقفت، في طابور معاينة الجوازات بمطار أتاتورك في إسطانبول تمسك بطرف حجابها لتثبته. لها وجه شاحب لكنه طفولي وعليه مسحة من النُبل، خداها خاسفان وحول عينيها هالات السهر. جسمها ضئيل، لا أتصور أنها تبلغ الإثني عشر عاماً على أحسن تقدير. كانت الفتاة تتقدم امرأة تدفع بكهل على كرسيه، تحمل الصغيرة معها ثلاث مستندات من كل شيء: جواز السفر، تذكرة الطائرة والعديد من الأوراق المختومة. وسط العشرات من الصفوف، كنت ستلمح من بعمرها يعبثن بهواتفهن الذكية، أو أجهزة الألواح الرقمية، لكن بطلتنا – إن شاء لنا أن نسميها كذلك- لم تكن تحمل سوى أوراق لتثبت أنها تستطيع السفر، أنها دفعت ثمن الرحلة وأختام لتثبت حقائق أخرى. للأسف تعيش في عالم يطالبنا بالإثبات كل لحظة، ويسقط الأوراق على الواقع فيطابقها لا العكس.
كانت تعيد الالتفات إليهما، وفي كل مرة كانت تبتسم نحوهما، كانت تعاودها نظرات القلق نحو ضابط الجوازات الذي أشار لها أن تتقدم نحوه ليتأكد فيطابق الأوراق مع واقعهم. وما أن تقدمت، حتى ربتت المرأة لا شعورياً على كتف الكهل المقعد، بدا محرجاً بقدر ما بدت بطلتنا تعبة. تكلم الضابط ..سأل، أخرجت الفتاة أوراقاً تقدمها وإيضاحات مقتضبة تلفظها، واستمرا على هذا النحو حتى فرغت كل الأوراق بيدها، ولم تفرغ إجاباتها بعد. لشدة ما كان الأمر منتظماً حتى يخالك أنه يحاكي آلية ساعة، لكنه خال من أي شفقة. ألم يلمح الضابط الدموع في عيني المُقعد؟ أم حسب أن عود هذه الصغيرة يستطيع تحمل كل هذا؟ ضعف الكهل قبل آوانه، وحملت على كتفيها قبل أن يشتد عودها.
ثم أن الضابط دفع لها الأوراق مرة أخرى مبعثرة، لا يهم.. التقطتها وكانت تبتسم لهما ملوحةً بالأوراق، وكأنها حازت ميدالية ذهبية، تهرول إليهما. التقت عيناي بعيناها، زمت شفتيها ثم عادت للمشي بسكينة. أعطت الأوراق للمرأة لتعيد ترتيبها. أخذت تدفع الكرسي..واختفت المرأة في ستار الزحام أولاً، فالكهل بكرسيه، ثم اختفت هي في ستار الزحام للأبد.
ما الذي أردت أن أقول لها؟
والله لتهدج صوتي أساً إن أنا حدثتها بأنها كبُرت قبل أوانها، بأنها لن تحظى بدلال من في عمرها، لن تستطيع أن تفهم اهتماماتهن لأنه قدرها أن تهتم بالآخرين ولا يهتم بها أحد. هل أملك الشجاعة لأخبرها أن الأمر سيزداد سوءً؟ بأن الدنيا قد عرفت في شخصها فريسةً لها؟ بأنها ستطحنها ولن ترحمها، لأن الحياة أجبن مما نتخيل.. فهي أشد ما تقسو على الضعفاء، وأشد ما تكون خوفاً أمام الأقوياء. وبكل تأكيد ستكون أكثر حكمة وإدراكاً للحياة، وأشد نضجاً لكنه النضج الذي يجعلها تذوي قبل آوانها. هل أقوى على أن أقول لها أن الحياة مسرح؟ وأن عليها أن تمضي قُدماً في تجسيد دور الضحية، ولا يهم إن اتـقنت الدور أم لا، ستحمل أكثر فأكثر. حتى تتعب، حتى تخر تعباً وعندها تكون النهاية.
تمت
ملاحظة: الموضوع جزء من تدوينات لي أثناء سفري إلى تركيا، والتي اعتزم نشرها إن شاء الله.
Sara
2012/08/20 - 06:25 ص
مالحياة الا مسرحية؛ فصولها احداث متناثرة وابطالها شخصيات متنافرة
قد تضطر في احد مشاهد المسرحية ان تمثل مع شخصيات دون مستواك الاخلاقي او الفكري؛ وذلك فقط لارضاء جمهورك!!!!
او قد تحتاج ان تلعب دور الضحية في احد المشاهد، ليتسنى لك أخذ دور الحاكم او السعيد لمشاهد او فصول أخرى!!!
Um3azzan
2012/08/20 - 08:53 ص
وصف بليغ استطعت فيه ان تشرح مشاعر تلك الفتاة من موقعك أنت .. والأجمل انك أعطيتها حلا بليغا .. بالفعل ان هي جربت دور الضحية لتحسن وضعها!
مريم
2012/08/20 - 05:48 م
محزن.
أقارن نضجها بدلالنا.. وأفكر لو اضطررنا يوماً لنكون مكانها. أنحسن التصرف..؟
هي تتعلم كما نتعلم لكنها ستتخرج بمرتبة أعلى من مدرسة الحياة وقسوتها.
arwagh
2012/08/22 - 11:48 م
عظيمة. بالمقابل أرى أن هذا هو المطلوب، والروح المسؤولة في الفتاة يجب أن تتربى عليها مثلها مثل الصبي، هذا كلام والدي لنا، الاعتماد المبكر على النفس يقي المرأة أن تكون أحد عالات المجتمع في حال الانفصال أو الترمّل. أنا أحيي شخص الفتاة والاثنين الذين كانا معها.
شكرًا رائد لهذه اللفتة.
Amal AlSuwaidi
2012/08/24 - 06:32 م
لا بأس. الحياة القاسية تشكّل الجسد. سوف تكبر قبل عُمرها لكنها ستعيش بطريقة أفضل. ليس من الضروري أن تكون الطفولة أجمل ما يمكن. كما أنّه ليس من المفترض أن تكون العكس. التجارب تصقل. إن كان الإنسان الحجر. فالحياة القطرة المُلحّة على النحت. أخبرها بأنّها ستكون أفضل. وبأنّ الحياة تقفز أعلانا حين نترك لها الهشاشة. الإثبات الوحيد للعيش هو أن تَشِبّ على الجرح. إنها تكبر. صدقني تكبر ومن شأن ما حدث أن يجعلها قوية بجسد ممتلىء ووجه يناسب حجابها الناعم.
layal
2012/09/01 - 01:09 ص
رائد كلامك ذكرني بحاله اخري – اتمني ان تستطيع وصفها ان كان يمكن وصف حال هذه الطفله التي انتزعت روح امها امامها وهي باقيه بجوارها في حاله بين الحضور والغياب – عذرا علي الفيديو لكن هو ما يظهر الموقف
http://www.alrrayalarabi.com/2012/08/27/%D9%85%D9%8A%D8%B4%D9%84%D9%8A%D9%86-%D8%B9%D8%A7%D8%B2%D8%A7%D8%B1-%D8%AA%D8%AA%D8%AD%D9%88%D9%84-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%A3%D9%83%D8%AB%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%AE%D8%B5%D9%8A%D8%A7%D8%AA-%D8%A7/
حنين
2012/09/03 - 12:16 ص
بارك الله فيك
في الحقيقة الحياة صراع قدر لنا ان نعيش فيه ، ومن قدر لنا العيش فيها هو الله عزوجل وهو أرحم بعبده من الأم على وليدها ، ولكن اقتضت حكمته أن نتعرض في هذه الدنيا لبعض المشقات وبعض الصعوبات ، ومع ذلك لنا فيها فائدة عظيمة حيث تكفر بها السيئات وترفع بها الدرجات ، ثم حين تنتهي بنا الحياة ونرى ما أعد الله للصابرين من الثواب، يتمنى الواحد منا لو قرض بالمقاريض .
هي الحياة يسعد المؤمن فيها بطاعة الله ، وينتظر بشوق لما أعده الله له في جنات النعيم ، فهي سعادة في سعادة !