التاريخ: شيخ وجب علينا بره.

التاريخ: 10 يونيو 2012

سرعان ما تحتويك إسطانبول، هي فاتنة تلوح منها معالم الجمال في المياه التي تجري في نواحيها  وقد حباها الله بزرقة لا تجدها في غيرها من المياه، وبالمآذن التي تعلو سماءها. في الطبيعة تلحظ روح المكان نفسه، وفي المباني تستشف روح من سكنه واستوطنه. كما يميز المدينة شخصية تشكلت على مدى قرون طويلة، تتداخل الأشياء معها وتمازجها بمقدار يثير التناغم أحياناً فتعجب له كتداخل : الماء واليابسة، آسيا وأوروبا، القديم والجديد. ونشازاً في أماكن أخرى تأنف منه: كوجود المراقص والحانات بالقرب من المساجد والمعابد! وكأي حسناء فإن لهذه المدينة عشاقاً قاتلوا بإسمها شابة، وأبناء دافعوا عنها عجوزاً، حتى عاد لها شبابها مرةً أخرى.

هذه بداية قناعة تسربت إلي دونما قصد وأنا أمشي في شارع الاستقلال حيث الشارع مكتظ بالمشاة – بحر من البشر، والبحر كالإنسان غادر بطبعه – على مدار الساعة ويبدو دائم السير في غير الاتجاه الذي أردت![1] وشارع الاستقلال، بهي الطلة تحفه المقاهي والمطاعم تتنافس في الروائح التي تسوقها إليك، والمحال المختلفة تعرض جديدها بمباني قديمة، أو تعرض تحفها في مبانٍ حديثة العهد.أوسط الشارع سكة من الحديد ضربت لتجول مقطورات صغيرة بطوله، وتعلو الشارع أنوار زينة بهية متشابهة حتى يخيل لك أنك تمشي في طريق ممتد لا نهاية له[2]. بدايته ميدان تقسيم، ونهايته برج قلاتا الذي بني على يد مملكة جنوه الإيطالية، وبين هذا كله تجد السفارات والمراقص، و يحيط بالشارع الكنائس والمساجد ومعابد! هناك لحظته، أي التاريخ جالس بين الأحياء كجد يلحظ أحفاده يتحلقون حوله ويمشون أمامه، بل أن هذا الجد سعيد بالاهتمام الذي يلقاه من الزوار، فرح بالأغراب يصوّرونه ويبتهجون لالتقاط الصور معه. وكأي متقدم للسن، يبدو التاريخ ضعيفاً أمام أبناء الحاضر، لكنه ذو حضور في المباني التي رممت، والتماثيل التي نُصبت وفي العادات التي رُسمت على طبائع أبناء الشعب التركي مثال ذلك زي بائعي المثلجات التركية المسماة دندرما، وطابعهم المرح في بيع بضاعتهم.

حين أقارن هذا بما نحن عليه، من هجرنا  للتاريخ وعزله في الصحراء والأماكن القفار، حيث المباني هُدمت، والبطولات نُسيت. سيقول بعضكم: “لا..” ويعدد لي أياماً هنا وهناك نلبس بها القديم من الأزياء، ونسرد بها روايات مختلفة إن لم تكن متضادة عن بعض البطولات، أو مبنى جديد تزيّن بطراز قديم، فهذا لا يعدو عن كوننا نستخف به على النحو الذي يثير حنقه ولا يرضيه. قد يفيدنا هذا بالمماطلة، لكن أخشى ما أخشاه أن يأتي يومٌ لا تفيد معه هذه المحاولات أجمع. ما الذي أتمنى أن أراه وأنا أكتب هذه اليوميات؟ أتمنى رؤية تاريخ ممتد لا منعزل عن الحاضر، متصل بالمستقبل غير منفصل. أقيس على هذا نظريات الشطرنج الحديثة التي تحث اللاعب على اختيار الافتتاحية الملائمة، لأن البداية – أي الماضي بتاريخه – ليست مرتبطة بوسط المعركة –الحاضر بمخوافه- بل وتحدد القطع التي تبقى بعد الحرب مع طبيعة النهاية –المستقبل بتطلعاته.

سوداوية؟ علها كذلك، لكن إن ساورك شك بمقدار حبة رمل، ينبغي علينا إذاً أن نقلق مما يخفيه المستقبل، أو قل ” ما يخفيه الماضي؟” لنا. لأن التاريخ شيخ طاعن في السن، وأنا أقلق من غضب المتقدمين بالسن، لأن السماء يا سادة  أشد ما تكون استماعاً لنقمتهم حين يصم الصغار آذانهم عنهم، تماماً على النحو الذي همشنا به التاريخ فلم نرد أن نراه أو نسمع أخباره إلا في أوقات قصيرة حددت وأماكن ضيقة خصصت.

كل يوم تهب فيه ريح من البادية، هو تذكير لنا بأن التاريخ موجود في زماننا وهو يزفر ضيقاً بنا، كل غبار ينثره يذكرنا بأنه باق وأننا إن لم نتعامل معه كتعامل الأتراك مع تاريخهم فقد يأتي يوم يكون هو فيه حاضرنا ومستقبلنا معاً.

 

 


[1] يزور الشارع بحسب موسوعة ويكيبيديا 3 مليون زائر يومياً أثناء عطل نهاية الأسبوع.

[2] في الحقيقة يبلغ طوله ثلاث كيلومترات.

FacebookTwitterGoogle+WhatsApp
  1. منيرة محمد

    2012/06/28 - 07:35 ص

    ؤايضا ليس فقط البر .. بل وجب علينا مراعاته لكبر سنه فلكما ازداد تاريخ بعريقه ، سيحتم علينا التذكر والمحافظة على ذكرياتها بسبب الأحداث الجديدة المتوالدة …

    القديم أديمُ .. فلنبقى على تواصله به ..

    وشكرا لك ولقلمك

  2. أسامه العسيري

    2012/06/28 - 07:36 ص

    وددت أن أعرف المدينة … لكنني لم أحضى بالفرصة حتى اﻵن.

  3. Um3azzan

    2012/06/28 - 08:31 ص

    اسطنبول .. ما سحرني فيها اكثر من ٩ سنوات مضت هو هذا التاريخ، لم الحظه جالسا على جنباتها بل طائرا في هوائها،
    حقاً ان فقدنا تاريخنا ، نسينا مستقبلنا، فهو ركاز علينا ان
    نبني فوقه لا ننسفه ونبني عليه، أخشى ما أخشاه اننا نرى جيلا يكبر على نكران ماضيه واستعجال مستقبله، ما سيتركه هذا الجيل يقلقني!!

  4. layal

    2012/07/28 - 01:28 ص

    عندما كانا في الابتدائي كان كتاب تاريخنا يحكي عن اكبر مقبره تاريخيه في العالم موجوده في البحرين وتحديدا في عالي – الان اسير في شارع وأري ان كل تلك القبور التاريخيه قد أزيلت ولم يبقى الا كبيرهم وقبور متناثره هنا وهناك- وعندما انقش هذا الموضوع يقال ((الحي أبقي من الميت)) (شنو نستفيد من هل قبور ؟؟ )
    أسطنبول بسبب موقعها عانت من الكثير من الحروب لكنها احتوت كل الثقافات التي حلت بها يوما، في النهايه اصبح تاريخها هو مصدر سحرها وجاذبيتها، الكثير من الدول واذكر أيطاليا مثلا تاريخها هو احد مصارد جذبها السياحي
    خلنا احنا بس نتنافس من يبني أطول برج واكبر مجمع ، وهذا هو التاريخ الذي سيورث ((للعفاطي))

  5. حنين

    2012/09/03 - 12:34 ص

    بارك الله فيك

    يعجبني التاريخ حين يضم في جنباته مجد المسلمين ، ويذكرني بماضيهم العظيم .

أضف تعليقك

*

أهم التدوينات