أثناء عملي بالبحر، كنت أواظب على الجلوس فجراً وشرب القهوة لأنظر في رتابة إلى المنصة البحرية، وحدها المحطة لا تأمن جانب البحر فهي تعمل في دأب وبلا هوادة وعلى مدار الساعة، أما من يقطن المنصة من الإنس فكأنما أخذوا عهداً ألا يغدر البحر بهم، ولعمري كيف يسأل البحر بأن يخالف فطرته؟
هذه الآلات المترابطة بالحديد ذات الوظائف المتعددة، والأعمار المختلفة، والأماكن المتفرقة. هذه المعدات الصماء، والمحركات التي تهدر أصواتاً كأنها تهضم مواداً في أمعائها أو تقطّع أجزاءً بداخلها، وتزفر أدخنة في السماء، وذاكم اللهب الغاضب الذي يستعر غضباً من الشعلة – من برجه العاجي – في وجه تلكم الآلات بأن تسرع في عملها، ألا تتكاسل. كل شيء يبدو دقيقاً ومتـقناً إلى الحد الذي يدفعك بأن تجزم أن من يصمم هذه المنصات أولاً قبل عرضها على المكاتب الهندسية موسيقي بسبب توزيع الأصوات في أرجاء المحطة فهناك أركان هادئة، تستطيع أن تتخذ منها ركنا للقراءة، وأماكن يبلغ الصخب بها أن تصرخ في أذن من بجانبك فلا يسمعك! أو عل من يصممها أولاً فنان تشكيلي حيث الألوان متناثرة، فالسلالم صفراء، و بعض المعدات مطلية باللون الأزرق والصمامات مطلية بالأصفر،والأخضر وأخرى حمراء هي متنفس للغضب. هناك أنابيب بعدة ألوان تنتشر كالشرايين تمتد في كل جزء من هذا الجسد، تغذيه بما يلزمه من زيوت وماء،وهواء، وتخلصه من سموم ينتجها.
لكن هذا النغم يتخلله النشاز أحياناً، فقد يحدث خلل ينجم عنه اضطراب المعدات جميعها. بعضها يصاب بالحمى، حتى لا تستطيع أن تلمس أسطحها،وبعضها يدمع بالتكاثف حزناً وقهراً فتغدو أسطحها باكية، وبعض المحركات تلفظ الزيوت لوعةً وألما وتنوح الصافرات ويشتد عويلها لتكتشف بأن هناك خللاً، بأن هناك ألما في عضو من أعضاء هذا الجسد الحديدي، الذي تداعت له بقية الأعضاء حزناً.
حينها تفرض المحطة إرادتها، وترفض أن تنتج أي مقدار من النفط حتى يوجد الحل، والحل لا يرفض الوساطة والتوسط. الحل بأن يصلح العطب، وأن يعالج ذاك الجزء.
هذه المعدات التي هجرتها ، بحثاً عن البشر اتذكرها اليوم بكثير من الإجلال فهي بعكس البشر، فبالرغم من أنها من الحديد صنعت فهي تحس بقدر ما ولا تكذب أبداً.
حنين
2012/05/19 - 08:11 م
أسلوب أدبي جميل ، شكراً لك
bhaa
2012/06/20 - 07:08 م
bhaa odetallah