لا زلنا بخير.

هيأ الله لي أن أعمل بمجال يوائم شخصيتي، ويناسبها. فحين يقصد الناس بعض الوجهات السياحية المعروفة والعواصم العالمية التي يتباهون بسفرهم إليها، صرت أقصد بعض الأماكن الأقل تعارفاً بين الناس، وحين ينزل أقراني في أفخم الفنادق أبات في أقلها تواضعاً، وحين يأكلون هم أشهى الأطعمة آكل طعاماً بسيطاً. فهل أستمتع بهذا النوع من الأسفار؟ خاصة وأن وصفها بقطعة من عذاب، يبدو لأول وهلة هو الوصف الأدق، والتعبير الأبلغ.

لكن أشهدكم الله، أن السفر لتلكم الوجهات أمتع،والنزول في تلكم الفنادق أكثر راحة، والأكل أشهى وألذ. فلماذا؟ لسبب واحد، بسبب من أسافر لأجله،وأنزل في أماكن قريبة منه، ,وآكل معه، وأتجاذب أطراف الحديث معه، بسبب البسطاء.

حدث أن أوصاني أحدهم أن أجلب له حلوى اشتهر بها البلد الذي سافرت إليه آن ذاك، قصدت ذاكم الطرف من المدينة، حيث السيارات الفارهة، والبنايات ذات الألوان الزاهية، والمشاة متذبذبة قسماتهم بين البسمة والضحك. لكم هي عجيبة المقارنة بالطرف المنسي من تلك المدينة، قريباً من بعض المخيمات حيث الوجوه تنظر إليك بنوع من اليأس أو الاتهام، حيث يعيش الفقر وينزل هؤلاء المعدمون ضيوفاً عنده. ولجت محلاً للحلوى تعود قدوم السياح عليه، فأقبل علي “معلم” الحلوى يسألني أي نوع تطيب له نفسي؟ سألته عن نوع محدد، ظننت أن الموصي يهزأ بي، فالإسم لم يكن يخلو من الطرافة! حلف لي “المعلم” بأن حماتي تحبني، بأني ابن حلال، بأن عمري طويل وكثير من الأشياء الأخرى التي تؤكد لي أني ولدت في يوم سعد، لأنه فرغ للتو من صناعة هذا النوع.  أراد مني أن أتذوقه، فاعتذرت لأني لا أحب السكريات، دفعت المبلغ وكل من يعمل يقسم لي بحب بلدان ظنوا أني منها، شكليات تعجب السياح ومن وراءها تنزل اللعنات، ومن بعدها تكال الشتائم. حمل الصبيان الحلويات إلى سيارة الأجرة التي استقلها، جذبتني يد صغيرة في طريقي إلى السيارة.. انتبهت، كانت صبية دون العاشرة، لا يميزها أي شيء، هي كالألوف أو الملايين الذين يعيشون لقوت يومهم فقط. أخذت تحاول جاهدة أن تخرج بتوسلاتها، أي مبلغ من جيبي. أخذت تسرد حال أسرتها  “خمسة إخوان، أب مقعد، أم مريضة..”وغيرها من الأوصاف التي لست أحفظها اليوم وبعد مرور عامين على هذه الحادثة.

حتى قالت شيئاً أذهلني، قالت في يأس: من شان الله، من شان النبي محمد.   

التفت إليها “عليه الصلاة والسلام” قلت مبتسماً، أخذت تعيد نفس التقرير فاستوقفتها قائلاً: تفضلي، دفعت إليها مبلغاً فقالت: “الله يخليك أكثر.” فكّرت، أليس قبيحاً بنا أن تستدر طفلة بعمرها قوت يومها، في عمر يستدر به الطفل عطف والديه لشراء السكاكر، أو الألعاب؟ أي طفولة مشوهة هذه؟ ثم أن الطمع بالنقود في هذا السن، لن ينشأ عنه سوى أنانية انغمست بحقد، قلت: تفضلي، دفعت لها مبلغاً إضافياً ثم تهلل وجهها، كأنها عدت النقود وصيّرتها لما يلزم شراؤه.

شكراً لك، الله يخليك.

قلت وهي آخذة في الابتعاد: “كنت أريد أن أدفع هذا المبلغ لصبي بعمرك، هو أكثر فقراً منك. فإذا لم تأكلي من صباحك، فلم يأكل هو من البارحة، وإن كانت أسرتك تعبة فأسرته محطمة، وإن كانت صحتك تساعدك كما أرى أن تجري هنا وهناك فهو كسيح. لكن، هذا المبلغ من نصيبك فلتسعدي به.” هل وجد صبي ينطبق علي هذا الوصف؟ بكل تأكيد لكني لم التق به إطلاقاً!

أقبلت علي، أعادت المبلغ، طاوية تلكم الأوراق النقدية في يدي:”أعطيه، إحنا بأول النهار.” ابتسمت، ثم ترددت فدفعت لي باقي ما أعطيتها: “هو محتاج، أنا بخير الحمد لله. أنا بقدر أمشي”  

قلت: “إذاً أبقي المبلغ بحوزتك، وعديني أنك ستتعلمين وتعملين جاهدة أن تتوقفي عن سؤال الناس، حتى إن لاقيت أحدهم كما وصفت، فستساعدينه.”

“أوعدك. بس بتعطيه فلوس صح؟”

ابتسمت وقلت :  أكيد! وبعضاً من الحلوى أيضاً.   

ركبت السيارة، أخذت أتابعها في المرآة وهي تشيّعني حتى غابت هي، وغابت البنايات الزاهية من حولها وفكرة واحدة ظلت حاضرة: أننا لا زلنا بخير، لا زلنا بخير.      

FacebookTwitterGoogle+WhatsApp
  1. نوال

    2012/04/07 - 11:06 م

    السلام عليكم

    فعلا هي حظوة جميلة اكتشاف زوايا من العالم لا تعرفها الأضواء، وحيث ترف العيش لا يمكن للإنسان لمس واقع الحياة في تلك البقعة من الأرض…

    لو تركوا الطفولة على حالها لتصرفت دائما بهذه البراءة الصادقة !

    هنيئا التصميم الجديد

  2. مريم

    2012/04/08 - 11:17 م

    الجهات الأخرى من المدينة هي التي تحوي أسرار المدينة والنكهة المختلفة لها.
    اختبار الطفلة جميل، لوهلة كنتُ قلقة من ردّها.
    الحمدلله أن العالم ما زال بخير.

    أحببت تصميم المدونة الجديد!

  3. حنين

    2012/05/19 - 08:21 م

    نعم لازلنا بخير ، شكراً لكم

أضف تعليقك

*

أهم التدوينات