موقف وَقـَف.

 كم مضى من الوقت و هو ينظر في هذه الورقة البيضاء الخالية من أي حبر يجعل من أي قاريء يصنفه ضمن خانة أو يضعه في فئة؟ انتبه للجريدة التي لم يقرأها بعد، خطوط عريضة، عناوين جميعها تذكر إسمه، تحلل الموقف، تخمن ما هو فاعل؟ و في صف من يقف؟ صورة قديمة له، تحتها كتب إسمه و بين قوسين “ابن البلد”  كيف مضى اليوم فأقبل منتصف الليل دون أن ينتبه له؟ هل حقا إن هذه السنة 1954 ؟ كيف مضى عمره دون أن يلحظه؟ أخذ ينظر مرةً أخرى للورقة البيضاء. . أشعل سيجارته و أخذ ينفث هذا الخيط من الدخان، جعل يتبعه حتى اختفى، حتى صار لا شيئ، تماماً كعمره.

تناول القلم بيد و أسند صدغه إلى اليد الأخرى التي حملت سيجارته و رأسه!هم بالكتابة، ثم توقف للحظة تذكر ما قالته زوجته ذات يوم ” يوما ما ستحرق نفسك” هل قصدت السيجارة أو علها قصدت القلم؟

 لم يكن التعبير ليخونه، لم تكن ملكة الكتابة تنقصه. سيخسر كل شيء إن كتب ما يريد، سيربح فقط شيئاً ما بداخله ..عفواً فذاكم الشيء في حقيقته غير مادي هو “لا شيء”، شعور محض لكن هذا الشعور بداخله يفرض نفسه، هذا الوهم، يتجسد ليجعله حائراً أمام ورقة بيضاء، ليكون هو “أهم شيء.” أهي الشجاعة التي تنقصه؟ و ما الذي يخشاه و قد جاوز الخمسين من عمره؟ سيكتب ما يريد دون أن يعتذر أو يبرر، هل سيعذره الناس حينها؟ ما أسخفه إن ظن أن هذه الورقة بعد أن يلطخها بالحبر ستجد طريقها للعامة. أو أن أحداً من بعده سينظر إلى أبعد من الحبر، إلى هذه اليد التي آثرت كتابة نهايتها على أن تنهي حياة أحد ما، حتى لو كان هذا الأحد يتربص به، و يريد أن يجهز عليه.

بندول الساعة في الركن يتأرجح بين اليمين و الشمال، كأن الساعة الخشبية فارس يلوّح بفأس ليقطع رأسه المشتت. دقت الساعة لتعلمه أن اليوم مضى، كغيره من الأيام.. أخذ الورقة، و أخذ يمسح على الجريدة في ليزيل آثار قبضته حين حاول أن يمزقها هرباً مما تحتويه، ثم إنه طواها و الصفحة البيضاء و ضمّنها القلم، و وضعها في صندوق أحكم إغلاقه و دفنه وراء بعض الملفات المهملة في زاوية أحد الخزانات. لبس معطفه، عانق كل قطع الأثاث بعينيه قبل أن يطفيء النور، هم بالخروج.

“يا باشا، مسا الخير يا سعادة الباشا.. تفضل سيادتك جرنال النهاردة.” ناول البواب الذي وقف بانتظار خروج سيده من المكتب جريدة اليوم، و فرك يديه بعد أن تناول سيده الجريدة، بانتظار نقود تثير في يده دفئاً أكثر من مجرد مجرد فركها بأختها.

أعطاه ما في جيبه إذ أن النقود لا قيمة لها متى ما عُدمت من تنفق في سبيل سعادته، وقعت نظرة سريعة منه على الجريدة التي كان تاريخ إصدارها 1964

تمت.

FacebookTwitterGoogle+WhatsApp
  1. وضحـى

    2012/01/29 - 11:27 م

    تدوينة جميلة يا رعد!!

    تعمدت قراءتها جهرياً قبل وقت نومي بقليل، لتشن الأفكار حروبها ومعاركها في رأسي..
    n_n
    :p

  2. Um3azzan

    2012/01/30 - 01:20 م

    القصة ولغتها رائعة، تشعرك بعمق مشاعرها ..
    لكني لم أفهم ما دلالة التاريخ 1964 أو 1954 في الموضوع؟ هل هناك “حقبة” معينة تحاول أن تربط القصة بها؟

  3. Raed

    2012/01/31 - 01:03 ص

    شكرًا وضحى و أم عزان،

    أما بالنسبة للتاريخ فلتأثري بشخصية محمد نجيب الذي كان وحي هذه القصة القصيرة.

أضف تعليقك

*

أهم التدوينات