حين تهوي الطيور.

بني، هلّا رفعت ساعدك فلم تسنده إلى الطاولة متى ما كنت تأكل بالشوكة و السكين.

نظر المراهق إلى والده، لم يتعين عليه التبصر في معالم وجهه، لمعرفة انزعاجه من عدم تقيده بقواعد الطعام الصارمة. كان في السابق يتفحص وجهه من مسافة أبعد، و كان عليه أن يتفحص وجوه الخدم الذين يتحلقون و يحلقون حول الطاولة في رفعهم لبعض الأواني و إحضارهم لأخرى تحوي أطباقاً قام بها أمهر الطهاة. كل هذا كان كالحلم الآن، لم يبق من هذا الجاه شيء سوى بيت نكرة، محطم، معزول كما كان يرى والده. بداخله هذا المطبخ، و بداخل المطبخ طاولة طعام تهتز و ترتج لأدنى حركة و كأنها عجوز واقفة تجود بنفسها، و قد غطتها بعض الخرق في محاولة يائسة لستر عيوبها. لم يكن هذا فقراً مروّعاً، صدقاً لم يكن كذلك، لكن ما آل إليه حال الأسرة من بعد ثراء فاحش قد ساهم في حجم المعاناة إن صح تسميتها بذلك.  

دفع الإبن بنفسه إلى الوراء و قال: “شكراً أمي، الطعام شهي كالمعتاد لكن لا أحس اليوم بالتقيُد باللباقة و الذوق العام.” و أخذ يمعن النظر في وجه أبيه متحدياً.

كم مؤسف سماع هذا يا بني، كم مؤسف هذا.

ليس بأشد أسفاً من حالنا و ما نحن عليه.

“بالطبع، و الآن إما أن تعيد الجلوس للطاولة أو تنصرف، فهذا أيضاً ليس من الذوق العام أبداً.” أخذ ينظر إليه بغضب.  

سأنصرف. لأني أكاد أختنق..

“أسكت..هذا والدك.” نهرته والدته. أما الإخوة الصغار فقد ظلت ملاعقهم معلقة بالهواء و هم ينظرون لهذا الحدث الغير معتاد على طاولة الطعام حيث كل شيء مرتب بعناية فائقة حتى المواضيع المطروحة، و الأسئلة التي يطرحها والدهم  ك”ما الذي تعلمتموه اليوم يا صغار؟” و “هل تعلمون  – ثم يذكر أمراً لا يهمهم معرفته حقيقةً لكنهم يبتسمون لأن أمهم أخبرتهم بأن يفعلوا ذلك مسبقاً”

 “دعيه، خذي الصغار معك و اتركينا قليلاً مع بعضنا البعض.” قال بكل هدوء و دونما أي انفعال كان بالرغم من أي موقف، دائم النظر لنفسه و لتعاطيه مع الأمور بمنظر المشاهد أو الناقد الفني لتعمله مع الناس حتى إن كان إبنه و حشاشة فؤاده. لذا فقد كان نادراً ما يغضب إذ لا يعجبه حال الغاضبين و منظرهم. بل، أنه في كثير من الأحيان كان يسترجع مواقفاً خلت لسنين مضت فيوبخ نفسه لأنه انتقى هذه الكلمة عوضاً عن تلك، و همه أبداً كيف سيذكر من حضر أي موقف أداءه هو خلالها.

ساد الصمت المطبخ، و لم يبق سواهما حيث جلس ينظر إلى ولده و قد عقد يديه.

و الآن، قل لي ما الذي يغضبك؟

كان وجه الإبن ينم عن ألم عميق، و ترقرق الدمع في عينه. ما الذي.. فعلته.. بنا؟ كان يخرج كل كلمة مقطعة، وفي باله أنه يستطيع أن يستدرك فيعتذر لكن ما أن وصل إلى كلمة “بنا” حتى علم أنه أحدث شرخاً لن ينساه والده و إن غفر له هذه الزلة، لقد حفر في ذاكرة والده ما سيبقى معه حتى آخر عمره.

و أي شيء فعلته بكم؟ افتعل الأب ابتسامة باردة حاول أن يخفي بها دهشته من صراحة إبنه.

فقدنا كل شيء، ضاع منا كل شيء بسبب كرمك، و طيبة قلبك، و ثقتك بمن لا يستحق منك أدنى ثقة حتى طمع فيك من كان لا يحدث نفسه بالسرقة ذات يوم. و ها نحن اليوم، يُتصدق علينا بالطعام، و اللباس، و حتى السكاكر لإخوتي.. ما الذي فعلته بنا؟ لماذا؟ و قد انهمر دمعه، هل أنت فرح بما آل إليه حالنا؟

“لقد أعطيتك و إخوتك ما لا يشتريه المال، و بذلت ما بذلت و أنا أحسن الظن بالناس، فعفوت عمن  ذكرت و تغافلت عن آخرين. لكنك متعلم، و لا تفتقر إلى الأدب و اللباقة فأي شيء تريد؟ هذا حق أديته إليك، فلا تحاسبني في ثروتي كيف جمعتها وفي أي شيء أنفقتها، كما أني لن أحاسبك في ما تجمع كيف نلته و فيم تنفقه.” قالها بعصبية واضحة و قد عقد حاجبيه، كيف لابنه أن ينسى كل ما أعطاه مما أراد و من الهدايا؟

لا يحق لك أن تفعل هذا، قدمت لنا كل ما أردناه و لم تعطنا ما نحتاجه.  فهل هان عليك أمرنا؟

فتح فاه فلم يخرج أي صوت، لم تخرج أي كلمة  ثم قال “بني.. قبل أن تسارع في الحكم على أبيك، هل تظن أن الكرة لو حانت مرةً أخرى، أني اختار أن ينتهي بك المطاف و بقية أخوتك و والدتك، أن ينتهي بنا على هذا النحو؟”   

“حقيقة أبي، لا أدري..” عل الإبن قد فقد ثقته بوالده فلم يعد ينظر إليه على أنه بطل خارق القوى، و أنه يخطأ كبقية أبناءه.

هنا، نهض الأب “لا تدري” أخذ يهمسها، فكرة ومضت بعقله “لا أحد يضاهي الأمهات كذباً حين يسترن عيوب أطفالهن، و لا أصدق من الأبناء حين يريدون كشف تلك العيوب. هل هو غاضب من إبنه؟ أم هو غاضب من نفسه لصدق ما قال إبنه؟ انتبه قائلاً: تصبح على خير، ولدي.

ذهب الأب إلى غرفته جلس إلى كرسي و ضع بجانب نافذة تطل على جدار ملتصق بها و قليل من مشهد للسماء، لم يبدو من هيئته في الظلام إلى رسم معالم جسده، بفعل عامود الإنارة ذو الإنارة الصفراء الفاقعة كان في صمته كمن هو في صلاته. أتت زوجته، فتحت الباب و نظرت إليه أرادت أن تقترب فأومأ لها بكفه ألا تقترب دون أن ينظر إليها. هناك حطام الأحلام، بدا واهياً، ضعيفاً.. ثم أنها أدركت ،أن فارس أحلامها انهزم وقد اثخن بالجراح،فلا فرس أبيض ولا شيء من المستقبل سوى النهاية. على أنه عاش بعدها حياة طويلة أو قصيرة، لا يهم حقيقة بالرغم من محاولاته الكثيرة للتحليق و قد حطم جناحاه،  فحياة الطيور تقاس في الجو لا على الأرض و قد هوى هو إليها دون رجعة إلى السماء.

FacebookTwitterGoogle+WhatsApp
  1. مبارك

    2011/11/13 - 12:31 ص

    حديقة غناء في وسط بساتين كتاباتك…أعجبتني جدا و أنتظر المزيد

  2. مريم

    2011/11/13 - 12:59 ص

    أسلوب جديدة وحكاية مختلفة،
    أذكر أنك كتبت تغريدة سابقاً عن رغبتك بانهمار دمع القارئ. الحقيقة أن التدوينة أحزنتني جداً.
    أنتظر المزيد من التدوينات ذات الصبغة الأدبية، لأنك تحسنها جداً

  3. Um 3azzan

    2011/11/13 - 01:10 ص

    ثقل كبير يحمله الأب .. فهو دائماً المسئول عن الطفولة التي يعيشها أبناءه .. بحلوها ومرها
    قلم عميق .. كعادته

  4. Dots...

    2011/11/13 - 07:36 ص

    استمتع بقراءة قلمك عندما يسرد الواقع كما هو … واستمتع اكثر عندما اصل للفقرة الاخيره … ملخص الحياة في فقرة.

  5. راشد الكواري

    2011/11/14 - 08:59 ص

    اخي رائد , دائماً ما تجذبني باسلوبك الرائع في صف الحروف و عمق ماتنشر. وحقاً شعوري بالحزن يزداد كلما تقدمت من فقرة لما بعدها .. اخر فقرة كانت كمشهد من مشاهد الدرامية في المسلسلات اليابانية الكارتونية ” وهذا يعتبر قمة المدح عند رسام كاركتير هاوي متابع للأنمي ” خيالك واسع ويشد كل من يتابع تدويناتك..

  6. Sultan

    2011/11/16 - 03:54 ص

    أهنئك على هالتدوينة الرائعة، تفوقت على نفسك، واعتقد انك جاهز لكتابة اول رواية طويلة، تذكر مهما قصرت او طالت بدايتها سطر.

  7. Maram

    2012/01/13 - 12:58 ص

    فديت ابوي اللي كان لنا الام والابو :( ياما ضايقناه
    حبيت اخر مقطع – يعطيك العافيه

أضف تعليقك

*

أهم التدوينات