جواهر محطمة.

مقدمة: إليك عيسى، ستظل دائماً جوهرة نادرة حطمناها، ثم رضينا من الغرب من الجواهر زائفها.  

 

كثيراً ما أفجع بأقوام، لست أعني أنهم قضوا فأفجع بمصابهم، لكني أفجع بما كانوا عليه ذات يوم و بما آلوا له. فمن بين رسام ذو خيال خصب يقضي يومه في الرسم، لم يبق له من موهبته سوى خربشة بين الحين و الآخر حين الملل، أو رياضي كان محط أنظار لم يعد يلتفت إليه أحد فهو مكتنز قابع وراء مكتب ما في أحد الدوائر، في أحد الجهات، في أحد الوزارات.

يبدأ الواحد منهم باكتشاف ميوله في الصغر،و لا ينكر ذاك أحد لأننا نتقبل الخطأ و الفعل المعيب من الصغار بسماحة أكبر من الكبار تحت بند: اللهو و اللعب. سرعان ما يلحظ أقران الموهوب و من حوله أنه لا يحتاج لجهد يذكر ليتقن الأمر كمن هو في مرحلة متقدمة. فلاعب الشطرنج النابغة تتراىء له الاحتمالات دون أي جهد حسابي كمن يحاول  فيغفل عن خطوة تودي بحتفه و خسارته. و ما أن تأخذ هذه الموهبة في النمو  حتى يبدأ الانهيار، و تدفن الموهبة و لمّا يشتد عودها و لمّا تؤت ثمارها. فما هي الأسباب؟

–        الآباء: فهم يربون أبناءهم كما تربوا هم، فالمستقبل أهم من الحاضر و سيظل كذلك في أعينهم حتى يداهمهم الموت و لم يتعلموا أو يعلموا أولادهم أن يستمتعوا بالحاضر.

–        الأهل: خشية أن تكون هذه الموهبة “عيب” أو “منقود” يأتي بالخزي و العار على العائلة التي لا تمانع أي فشل تقليدي مثال ذلك التعثر في التحصيل العلمي لكن أن يطلع لاعب كرة فقط؟ أعوذ بالله! الغريب أن بعضهم لا تدري ما يقرب لك؟و لا تكاد تذكر يوم فرح فيه لفرحك أو سكب دمعةً لحزنك لكنه ينتفض و يجد في هذه الموهبة ما قد يطعن في عدالته و يقدح في مروءته.     

–        الأصدقاء:  لن أقول “أصدقاء السوء” هذا المصطلح المخيف! يتضح لك في الأخير أن أصدقاء السوء مصطلح عريض مطاطي يشمل بتعريف الجهات الرسمية تجار المخدرات و من يتعاطيها و من يحط لك حبوب في الشاي من حيث لا تدري، إلى تعريف الأمهات “ساقط في التاريخ و الجغرافيا، لا تمشي معاه” لكن أشير إلى الأصدقاء الذين يفتقرون للموهبة فيضيعون أوقاتهم و أوقات من وهبه الله موهبة ما.

–        المدرسة: إذ لا سبيل لرعاية و تنمية أي موهبة إلا عن طريق تكريم رمزي أو ظاهري. يكفي فقط التحصيل العلمي و لا غير و ما لا يصب في صالح المدرسة كالنشاط الطلابي فهذا عبث.

–        بعض من يعظ و من يمثل الدين للموهوبين في صباهم – و الوعظ من هؤلاء براء-  يصرف الموهوب و قد قال له” لا تسأل عنه في القبر، فالتفت إلى دينك.” هؤلاء لا يرون في الرسام، و لا في الكاتب و لا في أي موهبة سوى فتنة لا نعمة، مضيعة للوقت و سبب من أسباب تردي الأمة، و شرط من أشراط الساعة.

و بعد هذا، عندما نسحق أي سبب ليتميزوا به عنا، و يسهل علينا صفّهم ضمن صفوفنا، أو وضعهم في قوالب تتناسب و تصورنا للمجتمع نتفوق و يتفوق البقية عليهم، لأنهم غدوا عاديين قد دخلوا في سباق يكرم فيه العمر و الأقدمية، و النسب و المحسوبية، و يتم فيه مراعاة كل شيء لا يميزهم، أمور خارج نطاق موهبتهم لا يستطيعون فهمها بأذهانهم أو تشكيلها بأيديهم. و الأكثر من هذا بؤساً أنهم وإن نجحوا في هذا السباق كانوا كالملايين منا.

 كأني أعزي نفسي بفقدهم، فأدفنهم و لم يحن وقتهم. كم من أمل تجسد أمامي ليغير من هذا الواقع شيء، أي شيء.. لكني أحبط بأن الظروف تسحق أي موهبة في النفس ليصبحوا من بعدها أقواماً كغيرهم، و قد انطفأ ذاكم الوهج بعينهم متى ما تحدوا أنفسهم و تحدتهم قدراتهم. أحبط لأن الموهبة ظلت كما هي عليه في أحسن الأحوال أو هي مسخت أو أصبحت ذكرى تعذب صاحبها بما كان يمكنه الحصول عليه لو توفرت من حوله الظروف المناسبة.

هم جواهر ملقاة في الأرض فكأنهم اتلفوا أثناء صقلهم، لا تحكموا عليهم! رجوتكم بالله مهلكم. لأنهم مثلكم رهن ظروفهم و قيد مجتمعاتهم. أليس لهم أن يجترعوا الحياة مثلكم؟ لأي شيء يضحون؟ و هل لديهم حياة أخرى فيمكنهم عيشها إذا حكم عليهم بالفشل إلى الأبد، و هل تنسون فشلهم أنتم؟   كم من موهوب في معترك الحياة ُدفن؟ كم من متميز في تقاليدنا سُجن؟ سؤال ستجدون إجابته في ذاكرتكم، كما أجد عيسى.

 

 

FacebookTwitterGoogle+WhatsApp
  1. عبدالله

    2011/10/03 - 08:44 ص

    اخي الكريم
    تطرقت الى نقطة غاية في الأهمية
    وهي هدر ثروات بشرية مبدعة بحجج واهية متنوعة
    وقيود من هنا وهناك
    المدرسة والبيت والمجتمع وبعض الواعظين
    المسألة مرتبطة بثقافة مجتمع لا يدري يعتز بمن وبماذا
    مجتمع الإمّعة .. إن احسن الناس أحسنا وإن أساءوا أسأنا .
    مقال موضوعي جميل .
    تحياتي

أضف تعليقك

*

أهم التدوينات