جدران من المشاعر، و برج عاجي من الكِبر.

سبب الكتابة:

 

كتبت على صفحة تويتر ما يلي :Had to crash a spoiled kid who lives abroad thinking he is the only 1 who speaks English!Oh well people need disappointments in their lives

فسألني البعض من أن أقص عليهم ما حدث، بإسهاب و تفصيل. ففعلت.

======

 

كان الوقت عصر أول يوم من أيام عيد الفطر، الرجال منهكون من مجالس الصباح، و القوم انقسموا إلى ما بين مواصل معاند يأبى أن ينام إلا في الليل، و راضخ نازل عند حاجة الجسد من الراحة و قسط من القيلولة.فكنت من المعاندين، إذ لا اعترف بسلطان النوم متى ما أمرني حتى يغلبني في كل مرة و كأني أنازع الحياة فلست أنام إلا منهكا تعباً. كنت أجلس و قد تحلق حولي، صبية العائلة، فكانوا يستفسرون عن أمور لها علاقة باللياقة البدنية. أحسب أن الأمر له علاقة بمراهقتهم واهتمامهم بمظهرهم، فكنت أجيبهم و قد علمت أنهم دون الصبر و أقل من الالتزام، لكن أجبتهم على أي حال.

ثم أقبل هو، صبي في الرابعة عشر، ابتسمت “رباه كيف تمضي الأيام! أحقاً هذا الذي كان يتعلق بي، و كنت أجوب البيت حاملاً إياه متى زارنا والداه؟” سلم ببرود، هل جهلني؟ أو أنه تعرف علي لكنه لم يأبه؟ عيناه تجولان بين جهاز البلاك بيري مرة و في من بالمجلس مرةً أخرى، و كأننا خطة احتياط إن هو سأم البلاك بيري لا سمح الله، يستأنس بنا حتى يرجع البلاك بيري لسابق عهده من “الوناسة”. كان يستخف بمن هو أكبر منه سناً، ، و يسخر من ذا و ذاك، و جعل يقحم نفسه في كل أمر فيخمن بما يعلم و يفتي بما لا يعلم. بدا لي أنه غُذي بالمديح، حتى سمن و عف، جلست أرقبه بهدوء “ينبغي لي أن ألقنه درساً” رحت أحدث نفسي.

رسمت بمخيلتي كيف لي أن أدك هذا البرج العاجي الذي شيده له من حوله من الأهل، و الأصحاب إما بقصد أو بدون قصد. برج يعزله عمن حوله،برج يثبت له بأنه “غير” بأنه عبقري، و أنه مختلف عمن هم بعمره. أليس يعيش بالغرب؟ و يذهب لأحسن مدرسة حيث ينتظر جم وفير و خلق كثير من أبناء الأمراء و الملوك ليلتحقوا بها؟

ثم بدأت، فقلت: يا هذا، تتكلم الإنجليزية؟

فقال:نعم، ثم نظر لمن بجانبه، و أدار عينه كأنه يستهزئ بالسؤال و السائل معاً في آن واحد.  

هلًا قلت شيئاً؟

أخذ يقهقه: لا استطيع حتى تحدثني أنت بها.

You s”b”eak English ? قلت متعمداً

ثم تعالت ضحكاته: Sbeak? و راح يضحك عالياً.

ابتسمت و أخذ الصبية يضحكون إلا ابن خالتي عمر، فقد كان أخبر الصبية بي، و راح ينظر لي بغرابة.

فقلت: سامحني فأنا قليل العلم باللغة الأجنبية، فلم يتسن لي أن أعيش بالغرب مثلك، وأن أذهب لأحسن المدارس لكن دعني أحاول  what u do in mall? مثلاً

ضحك بسخرية، أعاد الجملة و هو ينظر لي باستخفاف.

و أخذت اسأله عن عدة أحياء و مناطق، و أمور تتعلق بحيث يعيش هو، فلم يجبني إطلاقاً! أي صلف و قلة ذوق؟   

استثرته قائلاً: يبدو لي أنك لا تجيدها إطلاقاً فأنت تستحي من التلفظ بها.

فقال بكل زهو و قد وضع مشروبه الغازي جانباً و نظر لي بكل تحد: إن لم يكن أنا من يتحدث الإنجليزية، فمن ذا الذي يتحدث بها؟ ها؟

كان هذا آخر ثقب أحدثه في سد الصبر بداخلي، و إذ بسيل من الجمل تنهال عليه بالإنجليزية، و لسان حالي و الله لأغرقن كل تكبر، و زهو، و فخر بنفسك  فلا عاصم لك الآن. فكان من جملة ما قلت:

إسمع يا حدَث، هناك من هو أغزر علماً ،و أفصح لساناً، و أكبر عقلاً، و أرجح رأياً منك، و هو في كل ذاك أصغر منك سناً فلا تفرح بنفسك. حين كنت بعمرك كنت أضلع بالإنجليزية منك، و حين تكون بعمري سأظل أجيد هذه اللغة أحسن مما ستجديها في حياتك قط! الفرق بيني و بينك هو ما بين السماء و الأرض. أتدري لم؟ لأني تعلمتها بنفسي، فلم أنهل بعد من فصاحتها بالرغم من عذب مشاربها، و تلقّنتها أنت فارتويت و اكتفيت بالرغم من قذى مناهلها. تظن أنك تجيد الإنجليزية؟ لن تفعل، بل ستظل ترعى بنفس محيط الكلمات، و لن تمر بك أدنى فكرة بأنك فقير من الألفاظ و المعاني، فقد ترهلت بالمديح فقنعت و دفعني زجر الذات لاكتشاف المزيد فطمعت. تواضعت أنا فرفعني من حولي، و ترفعت أنت عمن حولك و هاهم يضعونك بضحكهم.    

أخذ يحملق بي، و قد ذهل وسط ضحك عمر و بقية الصبية، نظر لهم بغضب، هل كانوا يضحكون عليه من البدء؟ إذ أنهم يعلمون أني كنت أجره إلى هذا النقاش. فرحت أكمل:

أنظر إليّ حين أحدثك، و أزل هذه النظرة البلهاء من على وجهك عندما أخاطبك. لقد بدأت للتو يا هذا، قد سألني من هو أثقل لساناً حين كنت بعمرك، فلم أزل متواضعاً في إجابتي له معترفاً له بفضله سائلاً إياه أن يصوبني إن أخطأت.

قد بلغني كبرك قبل أن تقدم، فكذبت من حدثني، و صدقت صورة في خيالي. فاسمع أيها البغيض،كنت أحملك بين يدي صغيراً و و الله ما كنت لأظن أن ذاكم الطفل اللطيف المحيا، الخجل دوماً سيصبح متعالياً على الناس في حين أنه أقرب للجهل منه إلى العلم، ألا تباً لمدرسة أخرجت لنا صنما أجوف من أي أدب!

 ثم بدأت الحديث باليابانية و راح يضحك، ظناً منه أني أخترع لغة و أني أمازحه، و إذ بالصبية يقولون له: رائد يجيد اليابانية. ففغر فاه.

سأل: ما الذي قلته؟

قلت: أمقت ما آل إليه حالك، هذا ما قلت.  

ثم خاطبته أخيراً بالعربية فقلت : ويحك هؤلاء قومك، أفتسخر بهم؟ ويحك أنت من هذه الأرض، أنت من هذه الصحراء و أراك بعتها لحفنة عشب و رزمة أوراق خضراء؟ نحن نعوّل على أمثالك في المستقبل؟ فإلى ما تهدينا؟ بأن نتجرد من أنفسنا و أن نعوج ألسنتنا حتى تقول لنا:

نعم أجدتم اللهجة؟ و أتقنتم المشية؟ و ضبطتم الصنعة؟

زم شفتيه، تراعد وجهه أراد أن ينطق و قد علمت حينها أنّي إن هممت بكلمة أخرى، فقد أهد سداً بيني و بين أن يحقد علي مدى عمره. فسكت إكراماً للقرابة بيني و بينه، بعد أن أتيت على برجه العاجي. أدرت دفة الحديث لموضوع آخر مع باقي الصبية، و ظل هو في سكوته حتى أن البقية لم يعرفوا كيفية التصرف، فكانوا يلحظون سكوته و لا يستطيعون التحدث معه.

هل كنت قاسياً معه؟ نعم. فهل كنت غاضباً منه؟ أما منه فلا، علي كنت خائفاً حين يتولى أمثاله زمام الأمور، و يتقدمون للمناصب. جال بنفسي، أن أفعل ما استطيع، كي أمنع ما لا تحمد عقباه إن ظل و من على شاكلته بنفس النهج.  

ثم أن الصلاة أقبلت، و قد كنت أتوضأ، فأقبل هو ينظر لي و كأنه كره قدومه: يسألون بداخل المجلس إن فرغت من الوضوء؟

قلت:”هائنذا قد فرغت” ابتسمت. أقبلنا معاً، فقدمني من هو أسن مني إلى الإمامة، و ظل هو يعجب من حالي، فأممت الناس ثم جلست أنصت لحديث أهل المجلس، و إذ بهذا الصبي المتعجرف يجلس بجانبي فسأل بالإنجليزية: أحقاً..أحقاً كنت تحملني على ظهرك حين كنت صغيراً؟

فقلت: “نعم.” رردت بالعربية و أنا لا أعيره أي انتباه، فقد كنت أوجه باقي الصبية لتأدية الواجب الذي يحتمه عليه عمرهم في مثل هذا المقام، من صب للقهوة و شاي و حمل لأشياء و وضع أشياء أخرى. ثم راح يجيبني عن كل سؤال سألته سابقاً، بكل أدب و بدون طلب.   

ثم سألني: أين تعيش و في أي البلاد؟

 هنا.

و كم عمرك؟

في الثانية و الثلاثين.

أمتزوج أنت؟

هنا نظرت إليه و ضحكت لم أتصور هذا السؤال و لا يعلم إلا الله لم سأله! رد من كان بجانبي: نعم و لديه بنت.

سألني بدهشة: من أنت؟

أردت أن أجيبه: ب”لا أدري” لأنها أصدق إجابة أحملها، لكني لمحت والدي و قد أقبل فقلت: إسمي رائد  و أنا ابن هذا الرجل. ثم ذهبت فقبلت رأس والدي.  

FacebookTwitterGoogle+WhatsApp
  1. عجيان

    2011/09/02 - 10:09 ص

    ويح قلبي من أنت.

  2. مريم

    2011/09/03 - 11:03 م

    ذهلت من الكلمات العربية القوية، وظللت أترجمها في عقلي للإنجليزية.
    أعتقد أنه واجه أكبر صدمة في حياته، والحقيقة أننا نحتاج جميعاً أن (نتسلح) ببعض من هذا الأسلوب.
    الآية انقلبت، وأصبح الصغار اليوم يستهزؤون بالكبار ومعرفتهم ويحسبون أنهم يجهلون ما تعلموه في سنينهم القليلة.
    تجربة مفيدة، استفدت منها كثيراً.

  3. أم جاسم

    2011/09/03 - 11:21 م

    أسلوب جميل خاطبت به ذاك المراهق، وأعتقد أنه قد فهم الدرس، ما شاء الله كلماتك قوية في معناها وصداها.

  4. ali alhababi

    2011/09/04 - 03:15 ص

    شكرا رائد. ربما هذا يعكس جزء من من طريقة التربية التي يجب أن نتبعها مع أولادنا. التواضع مهم بل هو جزء من ديينا مهما بلغنا من المناصب وارى أن هذا يجب أن يكون مع أبسط الأمور كالتعامل مع الخدم في البيت. فعلا ان من الحكمة كلما ازدت علما لكما زدت تواضعا. عيدك مبارك

  5. LAYAL

    2011/09/04 - 11:13 ص

    اكثر ما يغيضني في صغار السن تمسكهم بالبلاك بيري حتي عند الحديث معهم- الفرق بيننا وبينهم جيل او جيلين في بالك بمن هم اكبر منا – احدي السيدات الكبيرات بالسن تخبرني برأيها لتقول ان الجيل القادم لا يعرف الاحترام ولا يعرف معني للتواصل الاجتماعي – ذكرتني بأحدي اطفال العائله التي لما تتجوز 10 سنوات وهي تتفاخر بما تعرفه اضحكتني عندما قالت ((انا اعرف حساب وانجيليزي واايد بس خلاص ما ابي اروح المدرسه بتعلم رسم بس )) شتقول لها هذي ؟؟
    عندما كتبت لها رقم بالسالب والموجب ومعادله جبريه – وبختني وقالت ((لا تكسرين مياديفها))
    في اعتقادي ان الطفل يحتاج لكسرت خشم نفس اللي سويتها انت

  6. LAYAL

    2011/09/04 - 11:21 ص

    LAYAL :
    اكثر ما يغيضني في صغار السن تمسكهم بالبلاك بيري حتي عند الحديث معهم- الفرق بيننا وبينهم جيل او جيلين ونحن ننظر لهم بهذه الطريقه ,فما بالك بمن هم اكبر منا – احدي السيدات الكبيرات بالسن تخبرني برأيها لتقول ان الجيل الجديد لا يعرف الاحترام ولا يعرف معني للتواصل الاجتماعي – ذكرتني بأحدي اطفال العائله التي لما تتجوز 10 سنوات وهي تتفاخر بما تعرفه اضحكتني عندما قالت ((انا اعرف حساب وانجيليزي واايد بس خلاص ما ابي اروح المدرسه بتعلم رسم بس )) شتقول لها هذي ؟؟
    عندما كتبت لها رقم بالسالب والموجب ومعادله جبريه – وبختني جدتها وقالت ((لا تكسرين مياديفها))
    في اعتقادي ان الطفل يحتاج لكسرت خشم نفس اللي سويتها انت وخله تتكسر مياديفه شوي
    والله يرحم القائل
    قل لمن يدّعي في العلم فلسفة——–علمت شيئا وغابت عنك اشياء

أضف تعليقك

*

أهم التدوينات