صبية الموت

هم شقر الشعور، خضر العيون أو زرقها. هم دون الحلم سوى قليل من الذين يناهزون الخامسة عشر، إذا رأيتهم يركضون و يجوبون أحياء المدينة حسبتهم غلمان مخلدون و قد هبطوا من الجنة لبعض الوقت. لكن ثمة أمر مختلف بهؤلاء الصبية فالجميع يتهيبهم، بل و يتطيّر منهم إن ولجوا حياً فسرعان ما تتعلق أعين الأمهات من النوافذ عليهم و يبدأن بتلاوة ما تعلمن من قرآن و يدعون الله ناظرات لهم تارة و إلى السماء تارة بأن لا يُطرق بابهن. يبدو الأمر كمسرحية حزينة تتكرر كل يوم و لا يختلف فيها إلا أهالي البيوت المطروقة أبوابها. فهؤلاء الصبية يأتون جرياً أو على دراجات هوائية ثم يقفون ليسألون فتيات أو أطفالاً يذعرون لمشاهدتهم، يسألونهم بقسوة عن بيت ما، يتم طرق باب البيت بسرعة فيتم إيصال رسالة مفادها: أن من تنتظرون قدومه، ليس بقادم. فقد استشد و هو حي عند ربه. سيؤتى بالجثمان إن أمكن ذلك.  

كثيراً ما تلطخت عيون الصبية بمشاهد الدمار، و الدم و الجثث المتناثرة و النيران التي تشتعل و استنشاق الموت و البارود حين يتم إحصاء الأموات بعد المعارك أو أثناءها. و لأنهم يقابلون في كثير من الأحيان بالرفض و عدم التصديق فهم يتفحصون الجثث بحثاً عن عما يميز الميت من صفات، إذ سرعان ما يشكك أهل الميت بصحة الخبر فيسألون عن علامات فارقة، وأي تردد من قبل الصبية في هوية الميت قد يشكل كارثة.

كان من النادر أن يتوافد إثنان من الصبية إلى نفس الحي، إذ يقوم صبي واحد بإيصال عدة أسماء إلى نفس الحي بحسب ما يعلمه أصحاب من لاقوا مصرعهم في ساحة المعركة. فيذهب أحد الصبية إلى الحي و قد علم أن فلاناً و فلان كانا يقيمان في ذات الحي فيطرق كل باب ليبلغ الرسالة، ثم يعود ليختفي في الضباب مرة أخرى تاركاً وراءه نواح و بكاء أهل الميت و سرعان ما يتوافد نساء الحي يبكين و يعزين أنفسهن قبل أهل الميت خوفاً من أن يطرق بابهن في اليوم المقبل.

لكن هذا الفجر من شتاء 1992  كان مختلفاً عن باقيه و مصيري لهذه المدينة البوسنية التي قاست ويلات حرب و كانت تنافح بشبابها ورجالها لتبقي على رمقها الأخير أمام الصرب متعطشي الدماء. المهمة واحدة :دفع الصرب بما يّمكن الهرب للضعفاء و النساء و بقية الأهالي  إلى بضعة أيام، لم تكن هذه المدينة سرايفو، و لم يكن هذا العام 1993 حيث تم حفر نفق المطار الشهير، فالمدينة محاصرة و الجبهات عدة، فلا مفر لأهالي المدينة سوى القتال. أما الصبية فقد كانوا موجودين في كل جبهة لنقل المعلومات الحربية، و رسائل التعزية.  

ثم بدأت الحرب، و بدأ دورهم في تناقل المعلومات بين الجبهات، و نقل رسائل الموت إلى بيوت الشهداء. وجوه بريئة ملطخة بالدم، تنطلق من أرض المعركة كالسهام في أكباد من تصيب. كان يخيل لمن يراهم يبعثون من بين الضباب وهم يزفرون البخار من أفواههم أنهم أنفسهم من ينشر الضباب في أرجاء المدينة.

ثم هي ساعة أو أكثر، و إذ بفتى في الخامسة عشر يبدو أنه شاخ  قبل أوانه يبعث من بين الضباب، و قد ابطأ من سيره و نزع قبعته الخضراء. كان بغير دليل، إنه يعرف أهل هذا البيت. كان البيت كبيراً قياساً  ببقية البيوت لكنه قديم و القرميد بأعلاه قد وقع عنه كثياب ممزقة بالية. تردد، هل يخبرهم أم لا؟ إنهم أصهار ابنة خالة له، لكن هذه أوامر و ينبغي له الانصياع لها.  ثم هل يضمن حياته حتى يخبرهم لاحقاً؟  ظل واقفاً مكانه ثم لاح له شبح يقوده طفل في الثامنة في آخر الحي. فكرة واحدة، نعم هاجس واحد جعله يهرع إلى حيث وقف الاثنان، إلى أن بلغهما.

أ.. ـي،  أي عائلة؟ قالها مقطعة وهو يلهث.

“ذاك” أشار بيده إلى نفس البيت القديم ذو القرميد الممزق.

“تباً” ضرب يد صاحبه التي أشارت إلى البيت و كأنه سيغير من الحقيقة شيء إن هو فعل هذا فيوجه أنباء الموت إلى غير تلكم الدار. “أخبرني إسم العائلة التي بعثت لها بربك.” كان الغضب واضحا في عينيه و هو يجذب ياقة صاحبه بيديه.

ذعر صاحبه فقال “هادزيو.. هادزيو مانوفيك.”

أغرورقت عيناه، لقد صدق حدسه. و يا لسخرية الحرب، أليس من المفروض أن يلقي خبراً لا أن يتلقاه؟ لأول مرة مذ اندلاع الحرب، يحس بما يحس به من خلف الباب.  لن ترحم هذه الحرب قلب عجوز ترجو أن يعود كل أبناءها  لها سالمين، ستلتهمهم كما تلتهم باقي الشباب لتبقي على الدفء في قلوب من يسعرها و ستلفظ البقية كالرماد.  

جئت بنبأ من؟

مهدي

تنفس الصعداء. أحس بالذنب، لكنه تمنى سلامة حاتم، أحد أبناء العجوز، و هو زوج ابنة خالة له و هو ينتظر مولوداً بفارغ الصبر.

هل يقربون لك؟

“هم أصهار لخالي.” أجاب ذو القبعة الخضراء.

هل تخبرهم لوحدك إذاً ؟

لا، ينبغي للرسل أن يصفوا لأهل الميت التفاصيل إن هم أرادوا التأكد، ستحضر معي.

أقبلوا إلى البيت. وقفا برهة أمام الطريق الصغير المؤدي إليه، تقدم ذو القبعة الخضراء يتبعه صاحبه ،و الطفل الذي جاء بصحبة الآخر فقد أصر أن يتبعهما لأنه أراد أن يكون مثلهما حين يكبر، و أرادا له أي شيء سوى أن يكون كذلك.  طرق الباب، لحظات حتى فتح الباب شابة شاحبة من وراءها نسوة و عجوز مكتنزة تلبس حجاباً و معطفاً قد تعلق ناظرها بهما، لمحها لوهلة ثم غابت بين النسوة.

مرحباً.

تجمهر النساء وراء الفتاة، و كانت  يد العجوز تزيحن جانباً كما يزيح المريض الستائر ليرى النور بعينيه. وقفت، تنظر إلى الصبيين.

استدرك مرة أخرى:

مرحباً، أنا زياد.. زياد هودزيك ابن خالة…

قاطعته: “ابن خالة رجيبا.” ابتسمت، و هي تغالب الدموع بعينها.

نعم.

انتبهت “هل تريدان بعض من الشاي أو الطعام؟ تبدوان منهكان بعض الشيء” الحقيقة أن العجوز كانت تؤجل سماع استشهاد اثنين من أولادها، و كأن أذنها ترفض ما يقوله العقل لها. هما اثنان، يعني أن واحداٌ فقط ظل على قيد الحياة من بين حاتم،و عمران، و مهدي. من هما اللذان ينبغي عليها أن توطد نفسها على أنها لن تراهما ثانيةً ؟

“شكراً لحسن ضيافتك، لكن علينا إيصال رسائل إلى أهلها.” أجاب الذو القبعة الخضراء، و كأنه أضاع للأبد أي براءة أبقتها الحرب عليه.  

ثم استكمل: “مهدي و عمران قد استشهدا و هما حيان عند ربهما. سيؤتى بجثمانيهما إن أمكن ذلك.  

أخبراني هل رأيتموهما؟

زم كلاهما شفتيه و اكتفيا الإيماء بالإيجاب.

ثم سألت: زياد أعلم أنك تستطيع التعرف على أولادي، لكن ماذا عن صاحبك؟ من رأيت؟

“عمران.” أجاب بحزم، لا مجال للتلعثم الآن لأن مصداقية الصبية بأسرها على المحك، إنه الواجب.

صفه لي.

يميل إلى الطول، واسع العينين، شعره بني يبلغ كتفه، لحية خفيفة، نحيل و بجبهته أثر خياطة لجرح.  

هل من علامات فارقة؟

نعم، شامة في وسط ذراعه، بجانبها واحدة صغيرة.

رفعت كمها، فقالت: كهذه؟

ذهل لبرهة: نعم، تماماً كهذه.  

كممت صرخة و كمكمت دمعة “شكراً لكما، ليحفظكما الله.”

ثم أن النساء على نحيبهن، و أخذت تجر نفسها إلى وسط البيت، حيث أوصد الباب من خلفها. وقفا عند سور البيت الخشبي، فارتدى ابن خالة رجيبا قبعته الخضراء، و سأل صاحبه: هل من رسائل أخرى تحملها؟

أجاب نعم، و أنت؟

لدي بيت واحد ثم أنا عائد للجبهة.

سأراك لاحقاً إن شاء الله.

ابتسم، أراد ذو القبعة الخضراء أن يعتذر لكن صاحبه كان قد ركض نحو الضباب، فغاب معه و انطلق هو أيضاً إلى حي آخر ليحمل نفس الأنباء لعائلة أخرى.  

 و بعد ساعاتين، أخذ صبي في الحادي عشر عشر من عمره يرتدي معطفاً أزرقاً ممزق بالتنقل بين الأحياء، انعطف عند النهر، كان من الصعب التنقل في وسط هذا الضباب، لاحت له مئذنة، هرع إليها و في الطريق رأى فتاة كانت تحدق فيه وجهه و هي تنظر إليه بنوع من الروع، لمس وجهه: أحس بلزوجة الدم، فهمس :”تباً، من عدم الفائدة سؤالها  “كان يلحظ الصبي أشباحاً خلف النوافذ،و هو يعلم في قرارة نفسه أن الكل يرجو الله ألا يطرق بابهم لأنه ضيف غير مرغوب فيه.  سأل فتاة أخرى فأشارت له باتجاه الشرق، أخذ يكمل طريقه.

أخذ يلهث فقال: أخيراً وصلت.

ومن بين الضباب أخذت معالم الحي الذي يقصد تظهر شيئاً فشيء، حي بأحد أركان المدينة ينتهي الإسفلت عنده،  فكأن الطبيعة تنازع المدنية في أحقيتها به، في وسط الحي بيت كبير قياساً  ببقية البيوت لكنه قديم و القرميد بأعلاه قد وقع عنه كثياب ممزقة بالية.

 

 تمت في البوسنة، و لا زالت تكتب سطورها في ليبيا و سوريا.

FacebookTwitterGoogle+WhatsApp
  1. عجيان الحبابي

    2011/08/20 - 05:48 م

    شهيد يذهب وقلب منفطر يبقى والى دار المقر كلاهما

  2. وضحـى

    2011/08/20 - 06:06 م

    ‎أليمه الأحداث،‫..‬ الله يكون في العـون!

    ‎آخرآجكْ للمحتوى بكبرةّ، رائـع‫!‬
    ‎كتاباتك لا يختلف عليها اثنين‫…‬ ‫:)‬
    ‎لن اقتبس لاني أضفته كاملاً لمفضلتي..

  3. Um 3azzan

    2011/08/20 - 06:48 م

    مؤلم .. والمؤلم أن السنريوهات تتكرو كما قلت .. فسأتي حروب وتنتهي وأخرى .. وهذا شأننا بني البشر.. نصارع ونحارب من أجل كرامتنا وحريتنا

  4. Anfal

    2011/08/21 - 05:28 ص

    دمعت عيناي:'( تذكرت مسلسلا كرتوني “البوسنه والهرسك” شاهدته في صغري , لا أذكر أحداثه إلا مشهدا واحدا , عندما أمر أحد الجنود باقتحام منزل أحد الخونة وصدفة كان منزل أحد أقربائه :-( أهينت النساء وضربن ولم يستطع فعل شي سوى تقديم رغيف خبز لهن . . هكذا صورت المشهد
    اللهم تقبل الشهداء يا حي يا قيوم في سوريا وليبيا واليمن وفلسطين وفي كل بلد يارب
    لا أعلم هل ستفرح الأمهات “بالكرامة” بعد أن فقدن فلذات كبودهن?
    تبا لهذا العالم الحقير م

  5. جواهر

    2012/01/16 - 10:26 ص

    قصه رائعه ومؤثره .. قدرة رائعة علي تخيل الواقع وتجسيده.
    فانتظار المزيد.

أضف تعليقك

*

أهم التدوينات