مروءة كتب

أخذ يلحظ الأرفف و قد تكدست الكتب عليها أمسك بالصندوق الفارغ بيد، يجره كمن يجر أذيال الهزيمة، أحقاً يغادر العراق؟مد يده في أكثر من اتجاه كأنه أعمى يتحسس طريقه، يريد أن يلتقط كتاباً لكن سرعان ما تعود يده فارغة فيقلب النظر وفي كل مرة تنازعه نفسه، و يقيده هذا المنظر، هذه ليست مكتبة. هذا عمره تجسد في كتب، هذه أيامه و بعثت في صفحات والشاهد على أنه ابن العراق.

 

هناك كتاب أدب اشتراه من شارع المتنبي، هذا الشارع الذي تنتظر فيه الكتب من يلتقطها، وهذه رواية الحرب و السلام لتوليستوي  اهداه إياها صديق عمره، هناك نسخة قديمة لكتاب تلقاه كعرفان من طلابه في جامعة المستنصرية.  الغريب هو أنه نسى ما تحتويه الكتب،لكنه لم ينس ما تعلق بها ففي كل كتاب ذكرى لمكان، لزمان أو لإنسان فأيها يأخذ؟ و أيها يهجر؟ حتى ألوان المجلدات من حوله، فالأزرق منها يذكره بنهري دجلة و الفرات، و الأخضر بنخل العراق، و الأحمر ب”استكانات” الشاي تدار في أرق نقاش و أحده. إنه لا يستطيع أن يحمل بلداً بأسره، و إن هي انتقلت معه، أفلا تفقد كل هذا السحر الذي تحمله؟ أفلا يبتر رونقها الذي يريد أن يذكرها دائماً به؟  

 

ظل ذاهلاً على هذا الحال تعصف به كل الذكريات. بضع دقائق، شوي بعد.. يريد أن يودع ما لن يأخذه من الكتب. حتى جاء صوت زوجته من خلف الباب، يذكره بأن موعد الرحيل قد أزف. زفر، عزم أمره، و خرج من مكتبته حيث قضى أكثر عمره. أوصد الباب خلفه، كما كان يفعل دائماً حين كان يخشى على الكتب من أطفاله، حتى من بعد ما كبروا ظل يوصد الباب خشية عليهم من الكتب. خرج على أبناءه و بناته خاو اليدين. كم كان يرى في نفسه موسى بن أبي الغسّان، و هو اليوم لم  يزد على أن يكون أبو عبد الله الصغير.  

 

ابتسم في وجوههم، بدا مهزوماً لكنه لم يرد من أعينهم أن تذكره بهزيمته. هم كأنهم لتوهم أيقنوا أنهم سيغادرون العراق.

 

أكيد، يابا ما تريد تشيل معاك كم كتاب؟ سأله أكبر أبناءه

أكيد. يلا روح شيل باقي الأغراض.

انفجرت أصغر بناته بالبكاء و احتضنته.

بابا لا تبكين هيچي أحسن. أخذ  يهدئ من روعها و يزيح حزنها و هو يلعب بشعرها.

بس، أكو صندوق عندك ليش ما تاخذ كم من كتاب وياك ؟

هذول أوفى و أشجع بابا، ما يقدرون يفارقون العراق. بعدين خطيه، لو أخذت واحد الباقي يزعلون.

نظر إلى زوجته التي أتت و هي تكفكف دموعها، ” ميخالف كلثم ميخالف.. يلا يابا” 

و رحل و عائلته كما رحل الملايين.

 

و لم يقتن كتاباً  من بعدها قط.

 

FacebookTwitterGoogle+WhatsApp
  1. عجيان

    2011/07/29 - 04:55 م

    الترحيل والهجره هي هي بحد سيف ام برصاصة ام بدرهم

    ابدعت ياخوي

    محبكم

  2. محسن الصفار

    2011/07/29 - 05:29 م

    فعلا ذكرتني بنفسي عندما غادرت العراق كان اصعب شيئ اتركه خلفي هو كتبي التي كنت احبها بشكل جنوني
    شكرا على هذه الكلمات القليلة المغنية عن مجلدات
    تحياتي

أضف تعليقك

*

أهم التدوينات